شعار قسم مدونات

الوعي ومركزية الإنسان (1)

مدونات - تقرأ

إن "المنطق" الذي يحكم تفاعُل، ويُمكن أيضا أن نقول صراع، الأُطر والنماذج المختلفة من الفكر البشري ليس هو المنطق بالمعنى الذي نعرِّفه بوصفه "منطق العقل"، وإنما هو ما يُمكن تسميته "منطق الأشياء"، منطق مادي موضوعي، وهو غير واعٍ لأن الوعي خاصيّة مرتبطة بالإنسان وليس بالأشياء ولا بالنماذج والأُطر الفكرية، فهذه النماذج هي بحد ذاتها غير واعية. إن الطريقة التي يفكِّر بها مجموعة من الناس، على الرغم من أنها هي التي تشكِّل وعيهم بأنفسهم وبالأشياء، ليست بحد ذاتها شيئا واعيا، لأن الوعي هو خاصية متعلقة بالذات الإنسانية الفردية، وليس بالبنى أو الهياكل الفكرية.

 
فالثقافة ليست نتاج تأمُّل وتفكير محض، وإنما هي نتاج نمط حياة وتفاعل مع واقع مادي، وتتشكل بواسطة عوامل ليست كلها فكرية، وهي توجد على مستوى اجتماعي، في الفضاء الذي يشمل -موضوعيا- الذوات الفردية ولكنه ليس جزءا منها، في الكل الذي يتجاوز باستمرار مجموع الأفراد في لحظة زمنية معينة، مثلها مثل اللغة، ومثلها مثل البنيات السياسية والاقتصادية، ليست واعية. كذلك المعرفة، هي ليست مجرد نشاط محض يهدف إلى كشف الحقيقة، نشاط يجري في مسرح افتراضي معزول عن كل ما ليس له علاقة بالمعرفة، فهي لا تخضع فقط لمنطق "الكشف عن الحقائق" كما لو كانت عملية تفكير محض في ذهن إنسان مثالي افتراضي، وإنما هي شيء يأخذ شكل البنية غير الواعية، مثل الهياكل الاقتصادية والسياسية. فهناك مؤسسات معرفية وهناك معرفة سابقة، نظريات وفرضيات وطرق تفكير وبحث وقواعد تنظيمية وأهداف واقعية تحرك البحث العلمي والمعرفي، وهي تعمل خارج عقول البشر، تعمل كهياكل مادية واقعية تستوعب في داخلها الإنسان، وتوجه بدرجة ما تفكيره وبحثه وإنتاجه المعرفي الذي سيصبح لاحقا جزءا من البنية المادية للمعرفة كشيء مستقل عن الإنسان.

 
إن الوعي هو ظاهرة محدودة تحدُث في نطاق محدود هو الإنسان كذات فردية في لحظة زمانية محددة، هي اللحظة الواعية، وكل ما سوى ذلك هو جزء من الواقع المادي الذي يخضع لـ"منطق الأشياء". وحركة التاريخ، والتي هي بالدرجة الأساسية نتاج حركة المادة وتغيُّر الزمان، ثم بالدرجة الثانية محصلة التفاعُل البشري-البشري، والبشري-الطبيعي، بما أنها لا تجري داخل أي عقل ما، وإنما تجري في الواقع المادي، على الأرض، فهي في مجملها عملية غير واعية، عملية لا يحركها وعي بقدر ما يحركها التفاعُل المادي في صورة لا تختلف كثيرا عن قوانين الطبيعة.

 

هُناك فرق بين المعقولية والوعي، فقد يكون الكون معقولا، إلى حد ما، ولكنه غير واعٍ، وكذلك الأفكار قد تكون معقولة بمعنى يُمكن فهم ما تقوله، ولكن هذا لا يعني أنها واعية
هُناك فرق بين المعقولية والوعي، فقد يكون الكون معقولا، إلى حد ما، ولكنه غير واعٍ، وكذلك الأفكار قد تكون معقولة بمعنى يُمكن فهم ما تقوله، ولكن هذا لا يعني أنها واعية
  

إن كل ما هو موضوعي، وليس ذاتي، فهو غير واع. إن الوعي يبدأ وينتهي مع الذاتية، وكل ما يخرج من حيّز الذاتية يتحول الى شيء واقعي محسوس أو مدرك، لا فرق بين الأقوال والأفكار والأفعال والأشياء، كلها تصبح أشياء غير واعية، لأن الوعي شيء لا يُوجد إلا في ذات فردية في لحظة محددة. فكلمات وأفكار هذا المقال، والتي قد تدل على وعي ما، كونها تحاول أن تقول شيئا وليست مجرد كلمات عشوائية، تصبح الآن من وجهة نظر القارئ أمورا غير واعية، اسمها أفكار، لا تختلف عن أشياء العالم الأُخرى سوى في نمط إدراكها، حيث يتم إدراكها بالعقل.

 
هُناك فرق بين المعقولية والوعي، فالمعقول قد يكون فكرة أو شيئا خاضعا لنمط ما. فقد يكون الكون معقولا، إلى حد ما، ولكنه غير واعٍ، وكذلك الأفكار قد تكون معقولة بمعنى يُمكن فهم ما تقوله، ولكن هذا لا يعني أنها واعية. إن الافتراض بأن حركة التاريخ معقولة، بمعنى يُمكن فهمها، وإن كان خاطئا من وجهة نظر علمية، يختلف عن افتراض أنها حركة واعية، لأنه ليس هناك معنى لذلك، كون الوعي خاصية مرتبطة بالإنسان.

 
بالعودة للبداية، بالنسبة لتفاعل الأفكار المختلفة، والتي تنتمي إلى أنماط مختلفة من الإدراك والمعرفة، بما أنه جزء من التاريخ، وبما أن التاريخ ليس شيئا واعيا، فإن صراع الأفكار ليس شيئا واعيا، ومحصلته بالتالي لا تعبِّر عن الوعي، وإنما تعبِّر عن حركة التاريخ، التي بحد ذاتها غير واعية. إن عبارة "وعي الإنسان يزداد عبر التاريخ" هي صياغة غير دقيقة لفكرة أن المعرفة البشرية تتراكم باستمرار، فالذي يزداد ليس هو الوعي كخاصية متعلقة بالذات، ولا توجد على مستوى التاريخ، وإنما توجد فقط كلحظة واعية متعلقة بذات إنسانية محددة.

  

إذا كانت المعرفة ستوجد في الإنسان مثلما توجد في الكمبيوتر، فإنها تكون شيئا منفصلا عن الوعي
إذا كانت المعرفة ستوجد في الإنسان مثلما توجد في الكمبيوتر، فإنها تكون شيئا منفصلا عن الوعي
  

قد يقول قائل، ولكن المعرفة تعمِّق من وعينا بأنفسنا، وكلما ازدادت المعرفة البشرية، كلما اشتد الوعي وتعمَّق وأصبح أكثر قوة. مرة أُخرى هذه مشكلة لغة لا أكثر. لنتخيل الآن إنسانا محيطا بكل المعرفة التي أنتجها البشر عبر التاريخ. هذه المعرفة هي في النهاية شيء لا يختلف عن الأشياء الأُخرى عدا في نمط وجوده أو في طبيعته. يمكننا مقارنته بالماء، فالماء يملك الوجود الذي نعرفه جميعنا، والمعرفة كذلك تملك وجودا ولكن بشكل مختلف.

 
الآن هذا الإنسان الممتلئ بالمعرفة، مثل المحيط، لا يُمكنه أن يكون أكثر وعيا بنفسه من الإنسان العادي لمجرد أنه ممتلئ بها؛ فهو إذا كان يملك وجودا بمعزل عن هذه المعرفة، إذا كان ذاتا متجاوزة لها، فيجب أن يكون قادرا على تخطي هذه المعرفة للتفكير فيها هي ذاتها، وفي نفسه كذات مستقلة عن ما تحمله، تماما كما أن المحيط، هو شيء مختلف عن الماء.

 
يُمكننا التفكير في جهاز كمبيوتر يحمل كل المعرفة التي أنتجها البشر. ولكن مهما أوتيَ هذا الكمبيوتر من ذكاء اصطناعي، لا يمكنه أن يكون شيئا واعيا. وإذا كانت المعرفة ستوجد في الإنسان مثلما توجد في الكمبيوتر، فإنها تكون شيئا منفصلا عن الوعي. أما إذا كانت المعرفة هي ما يشكل الذات، بحيث يتعذَّر فصلهما مثلما نفكِّر في الماء باعتباره يدخل في تحديد ماهية البحر، وذلك إذا فكَّرنا في المعرفة لا كشيء يوجد في الذات نفس طريقة وجود الماء في الأرض، أو وجود البيانات في ذاكرة الكمبيوتر، وإنما كشيء يدخل في صميم تكوينها، كشيء يمنح الذات هويتها، ويجعلها ما هي عليه. فإن المعرفة لن تؤدي في هذه الحالة الى تعميق الوعي، كما يُراد لها، بقدر ما تؤدي إلى طمس الذات ومحوها في بحر المعرفة والتاريخ، وهي أشياء غير واعية أساسا، بمعنى أن الوعي يختفي هنا لصالح العقل والتاريخ.

 
إن الوعي هو نقيض للوجود، يدرك نفسه بالتناقُض مع كل شيء آخر عداه، ويكون حُرا بقدر ما يقف بمعزل عن كل شيء آخر، كل شيء على الإطلاق. ولكي توجد الحُرية، يجب أن يكون الوعي شيئا قائما بذاته، في استقلال عن كل شيء، بما في ذلك المعرفة والأفكار. وهذه هي الإمكانية الوحيدة لوجود الذات، ووجود الحرية كخاصية لهذه الذات.

 

نواصل في الجزء الثاني..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.