شعار قسم مدونات

كنت طفلة قلقة!

Blogs- child

كنت طفلة قلقة، أفكّر أكثر مما ألعب، وأستمع أكثر ممّا أتحدث، وتأخذ القصص التي تصل إلى سمعي امتدادات جديدة داخل رأسي، بنهايات جديدة تبعا للطريقة التي أرى أنها تليق بها، أتواجد دائما في مكان خاصّ آخر بعيدا عمّن حولي، بعيدا عن عائلتي، بعيدا عن أصدقائي، بينما أنا معهم في الغرفة نفسها، أمارس التساؤل أكثر من اللعب، والبحث أكثر من المتعة.

 

لا أشعر بالمتعة الحقيقية التي أرى أصدقائي يشعرون بها، كنت أستغرب دائما مقدرتهم الجميلة -الصحيّة ربما- على تصديق اللعبة، على عيشها لدرجة تجعلهم ينسون تماما أننا في مجرّد لعبة مُختَلَقة، في الوقت الذي كنت لا أستطيع التوقف فيه عن التفكير أنها ليست أكثر من مجرّد كذبة نستطيع إيقافها متى أردنا، كنت داخل اللعبة وخارجها طوال الوقت، ألعب بينما أفكر في لا حقيقة الأشياء التي تدور من حولي، أختلق الأحاديث والقصص الجميلة بينما أفكر دائما في لا جدواها!

  
لعبةُ طفلٍ رضيعٍ مصنوع بطريقة تمكّنه من الرضاعة ثم بلّ ملابسه الداخلية فكرة جعلت معظم صديقاتي تقمن بشراء الطّفل اللعبة والتفاخر به وبملابسه وأغراضه الخاصة، وحين سُئلت إن كنت أود شراء لعبة مماثلة أجبت أنه صحيح أنه يقوم بالرضاعة وبلّ ملابسه الداخلية، ولكنني أعرف التقنية التي تجعله يتمكن من عمل ذلك، كيف سأقوم بتوطيد علاقة مع طفل تحمل ضحكته وبكاؤه نغمات محددة لا تتغير، وملمسه بلاستيكيّ بدرجة برودة واحدة مهما بلغ سمك الملابس التي يرتديها!؟
 
حتى لعبة باربي كانت تبعث على الاستفزاز بالنسبة لي كطفلة، الابتسامة الدائمة على وجهها، ألوان مساحيق التجميل التي لا تزول، الخدود الحمراء النضرة الغير قابلة للشحوب، الملامح المتشابهة المرسومة بمقاييس واحدة، الجمال المدروس الذي لا يتسخ ولا يشيخ، كلّ ذلك كان يبعث على القلق بالنسبة لي، أكثر من المتعة، كنت أعرف أن كائنا لا يتسخ ولا يكبر أو يشحب كائن ليس جميلا مهما بلغ جماله!
  

ما تزال الأسئلة والإجابات لعبتي المفضلة حتى اليوم، أبحث دائما عن السؤال الأكثر صعوبة لأجد الإجابة الأجمل الأكثر صعوبة التي تليق به
ما تزال الأسئلة والإجابات لعبتي المفضلة حتى اليوم، أبحث دائما عن السؤال الأكثر صعوبة لأجد الإجابة الأجمل الأكثر صعوبة التي تليق به
 

كنت معظم الوقت أقوم بمقاطعة أصدقائي بعد بدء لعبة "بيت بيوت" بقليل وأتوقف عن اللعب، أقول لهم: "اعتبروني سافرت أو متّ في اللعبة وأكملوا"، القهوة في الفنجان لا طعم لاذع لها، الفناجين ملونة بشكل تافه مبالغ به، صديقتي تحاول أن تبدو شريرة في الوقت الذي لا يليق بها ذلك، الأحاديث المختلقة التي كان يعجبني بعضها بالضرورة ستنتهي بمجرد انتهاء اللعبة، والأموال التي قمنا بصناعتها من الورق لا تزال الخطوط الزرقاء واضحة عليها، كان كل شيء يستفزني بعدم حقيقته. 
 
كانت لعبتي المفضلة المرآة، أحب أن أرى نفسي، أحب أن أتحدث، أن أختلق الأسئلة أمام المرآة ثم أحاول البحث عن إجابة جديدة أكثر صعوبة وعمقا كلّ مرّة، أنا من يختلق الأسئلة وأنا من يجيب في الوقت نفسه، وما تزال الأسئلة والإجابات لعبتي المفضلة حتى اليوم، أبحث دائما عن السؤال الأكثر صعوبة لأجد الإجابة الأجمل الأكثر صعوبة التي تليق به، ولكن مع طفل رضيع حقيقيّ دافئ، يقوم ببلّ ملابسه الداخلية دون أن أعرف كيف يحدث ذلك تماما، له أكثر من خمس ضحكات ويبكي بأكثر من طريقة تبعا لسبب بكائه، وأعرف درجة حرارته بمجرّد النّظر إلى عينيه، لديّ فناجين بيضاء تليق برائحة وطعم القهوة، بينما أنا هي "باربي"، ولكن بملامح غير متناسقة تماما، ملامح تتسخ وتكبر وتشيخ وتشحب وتزهر، ملامح يصيبها الإجهاد والإعياء تبعا لأسباب كثيرة، أعيش أحاديث وقصص يومية لا تنتهي، غير مثالية غالبا، الأمر الذي يجعلها أكثر مثالية وحقيقية ودفئا!
 
جمالية الأشياء دائما في حقيقتها، في مدى مقدرتها على بثّ الحياة فيك، على إيقاظ حقيقتك، بجمالك وبشاعتك في الوقت نفسه، بقصصك المثالية وغير المثالية في الوقت نفسه، بملامحك التي لا تشبه أحدا سواك، تستطيع أن تبدو أكثر جمالا دائما في قصص مستعارة وأحاديث مستعارة ووجوه مستعارة، ولكن الأهم هو أن تبدو أكثر حقيقية، حينها فقط ستكون أكثر جمالا. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.