شعار قسم مدونات

كل حزب بما لديهم فرحون

blogs - people

اقتضت حكمة الله عز وجلّ اختلاف النّاس في آرائهم وتفاوتا في أفهامهم وتلك من السنن الكونية التي لا تتبدل ولا تتحول بحال. ومن هنا تباين النّاس في تحليلاتهم ونظرتهم للأمور وللحياة. وإذا كان هذا هو الحال فلا سبيل لنا إلا تقبل هذا الاختلاف بسعة صدر والبحث عن الحيز المشترك وعدم التعصب للقدر المختلف فيه.

 
مشكلتنا اليوم ليست في اختلافنا بل مشكلتنا الحقيقية في عدم تقبلنا لهذا الاختلاف فكما يقول محمد محفوظ: إن العديد من الحروب الداخلية والأهلية التي شهدتها بعض المجتمعات العربية والإسلامية وبصرف النظر عن مبرراتها التاريخية والسياسية هي من جراء تراكم العقلية المتعصبة التي لا ترى إلا لونا واحدا وفكرا واحدا وحقيقة واحدة. وهذا بالضبط واقعنا اليوم فكثير منّا لا يقبل إلا ما يعتقدُ به ولا يرضى في ذلك رأيا مخالفا وكأنه الوحيد الذي حاز الحقيقة، حازها هو وجماعته التي ينتمي إليها -جماعته أو حزبه السياسي أو غير ذلك- ومثلُ هذا تجده طالما توافقه في رأيه وتَذهب مذهبه وتُشاطره أفكاره.. فإنه سيسرف في مدحك وذكر خصالك ثم إذا خالفته يوما في مسألة أو عارضته في فكرة.. تجده قد انقلب يُسفهك ويُجهلّك ويخوّنُك ويرميك بكثير من التهم الثقيلة.

 
إن عامل الاختلاف من الأمور التي يمكنها أن تكون فرصة للتقدم والتطور الحضاري وذلك بإثراء ما عندنا من عادات وتنوع ثقافي لخدمة المجتمع والناس. يقول محمد محفوظ: من هذه الفرص التي تتطلب سَبر أغوارها واكتشاف جوهرها الحضاري وتوظيفها بما يخدم الحاضر والمستقبل مسألة الاختلافات الطبيعية بين البشر.

 
إذا كان هذا هو الأمر فإن حالنا في المجتمعات العربية غيرُ ذلك إذ بالرغم من التنوع الفكري والثقافي والسياسي الذي تشهده هذه الأخيرة يبقى الجمود هو القاسم المشترك الذي تتخبط فيه بُلداننا العربية وذلك راجعٌ إلى العقلية الدوغمائية التي يتمتع بها البعض إذ يضلُّ متقوقعا على نفسه داخل إطار ضيق لا يتعدى حزبه أو مذهبه فلا يرى إلا لونا واحدا ولا يقول إلا ما يقولُ به الحزب ولا يعتقدُ إلا ما جاء به صاحب المذهب وهو بذلك يُحجر واسعاً حيث يصير الأمر عنده لا يحتمل إلا رأيا واحداً. وواقعنا الحالي يزخر بأمثلة كثيرة لا حصر لها لمثل هؤلاء.

 

ستصادف من الناس اختلافا كثيرا فستجدُ حيناً من يوافقك أفكارك وأحيانا كثيرة من يختلف معك فإن كان ولابد فقف فوق مِنصة الإنصاف
ستصادف من الناس اختلافا كثيرا فستجدُ حيناً من يوافقك أفكارك وأحيانا كثيرة من يختلف معك فإن كان ولابد فقف فوق مِنصة الإنصاف

 
أتذكر يوما أني قرأتُ خبرين عن حادثتي سير وقعتْ في نفس التاريخ الأولى راح ضحيتها شبابب ينتمون لشبيبة حزب سياسي معروف فعجت صفحة الفيس عندي بأخبار النعي الصادرة عن أصدقاء ينتمون لنفس الحزب أما الثانية فهي لركاب حافلة انقلبت وقتل فيها من قتل فلم يجد هؤلاء من ينعيهم إذ أنهم لا ينتمون للحزب وكأنه صار الموت عندنا نوعان نوع لمن هم من فريقنا يستحقون منّا الدعاء والنعي والبكاء ونوع آخر من الموت يقبضُ أرواح بقية الناس. ولعمري هل يوجد أقبح من هذا؟!

 
على أن أسوء ما في الأمر هو عدم الإنصاف مع المخالف فترى كثيرين ممن لا يقبلون بالاختلاف وتعدد الآراء يتهمون الآخر في نيته وفي سائر ما يعمل فعندهم دائما ذلك الآخر على خطأ إذ كيف يكون على صواب وهو ليس في جماعته ولا يتمذهب بمذهبه فالحق ما يراه هو لا ما عند غيره. وهنا يصير ذلك الغير قابع في دائرة المتهم لا ينفك عنها وحتّى وإن قال يوما صوابا أو جاء بعمل صالح فهو إنما يفعل ذلك لغرض في نفس يعقوب ولذلك فهو يحذر النّاس منه وينفرهم عنه سواء كان ما يقول به ويدعو إليه هو عين الصواب أو لا. وحاله هنا وكأنه نسي أو تناسى قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ".

 

وهذا التعصب للرأي وعدم العدل عند الخلاف لا تجده عند علمائنا السابقين فهم وإن اختلفوا مع غيرهم فهم في دائرة الإنصاف لا يحيدون عنها. يقولون للمخطئ أخطأت وللمحسن أحسنت ويذكرون ما عند المخالف من صواب وما كان له من حق. فهذا الذهبي رحمه الله وهو الذي كان قدوة في الإنصاف قد ذكر الكثيرين ممن يخالفهم في أرائهم وتوجهاتهم ومع ذلك أثنى على علمهم وأدبهم وترحم عليهم ودعا بالعفو والمغفرة لهم وعلى سبيل المثال حين ترجم للجاحظ قال: وَتَلَطُّخُهُ بِغَيْرِ بِدْعَةٍ أَمْرٌ وَاضِحٌ وَلَكِنَّهُ أَخْبَارِيٌّ عَلاَّمَةٌ صَاحِبُ فُنُوْنٍ وَأَدَبٍ بَاهِرٍ وَذَكَاءٍ بَيِّنٍ عفا الله عنه. وغير هذا عنده كثير وراجع في ذلك سِيره إن شئت.

 
إنك في هذه الحياة ستصادف من الناس اختلافا كثيرا فستجدُ حيناً من يوافقك أفكارك وأحيانا كثيرة من يختلف معك فإن كان ولابد فقف فوق مِنصة الإنصاف لا تحيدُ عنها قيد أُنملة واعلم أن هناك دائما رأي ورأي آخر وليكن شعارك: رأيي خطأ يحتمل الصواب ورأي غيري صواب يحتمل الخطأ.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.