شعار قسم مدونات

الفقه الإسلامي.. أعظم عمل قانوني في التاريخ

blogs- muslim

إن القانون ضروري للمجتمع كما أن المجتمع ضروري للإنسان، ولهذا لم يخلُ مجتمع في أي زمان ومكان من قواعد قانونية على نحو ما تنظم علاقات الأفراد فيما بينهم كيف ما كان مصدرها، أعراف أو عادات أو تشريعات تضبِط أمورهُم ساعيةً لتحقيق التوازن، وبمقتضاها يتحاكمون إليها عند النزاع عند الإقدام على أي تصرف يتعلق بهم وإحكام الوقائع المترتبة عن فعلهم وفِعل غيرهم.

 

وتعتبر قواعد الفقه الإسلامي المستمدة من الشريعة الإسلامية الغراء، على أساس أن قواعدها ناظمة وحاكمة ومُستوعِبة وشاملة لكل المجالات مهما تعددت وتطورت، فهي -الشريعة- جِد متطورة كما لتطور قواعدها، بدايةً وجب أن نميز بين الفقه والشريعة، هذه الأخيرة تَشمَل كل ما تقرر في القرآن الكريم والسنة النبوية من عقائد دينية وتعاليم أخلاقية وقواعد علمية وملية، أرشد فيها الشارع الحكيم إلى كثير من مسائلها عن طريق كليات مُحكَمة وأصول راسخة ومقاصد دائمة تدل عليها دلائل خاصة وقرائن بَينة وإمارات معقولة، في حين أن الفقه يقتصر على القواعد العملية في قسمٍ أو جزءٍ واحد منها فقط، فيبحث عن الوقائع والأحكام ويحدد ويُصور ويَفترض ويُقيم الحُجج ويبث بمقتضى الشرع، أما الشريعة فهي أعم من الفقه، إلا أن هذا -الفقه- يستمد قواعده منها وفق أصول شرعية عقلية ونقلية، مما يجعل قواعده كذلك مرِنة ومتطورة.

 
يُعرف الفقه لغةً الفَهمُ لشيء والعلم به وفهمُ الأحكام الدقيقة والمسائل الغامضة، وهو في الأصل مطلق الفَهَمَ وغلُبَ استعماله في عرف مخصوص بِعلم الشريعة، وفي المعنى الاصطلاحي فهو العلم بالأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية والمراد بالأحكام الشرعية العلمية في عُرفِ الفقهاء خطابات الشارع الحكيم المتعلقة بأفعال العباد الحسية من فِعل أو تَرك والمُتضمنة بياناً لناس بالصحة والبطلان. يهدف الفقه إلى إضفاء الحقيقة الشرعية القانونية على تصرفات المُكلفِ بما هي علاقة متعددة الوجوه والمظاهر كعلاقة المخلوق بخالقه وعلاقته بسائر مخلوقات الكون من حيوان بجنسه ونوعه، لكن نوع الإنسان يطغى لكثرة الاحتكاك والتعايش وتعدد نطاق المعاملات المالية منها وغيرها.

 
إذاً يُمكن القول إن الفقه أقوالُه ثابتة وفُروعه مرِنة، يبقى قابلاً في أي زمن ومكان للاستجابة لحاجيات كل فرد، ويضبط له كل ما في مصلحته من زاوية الواجب والحق "فأين كانت المصلحة فتم شرع الله" وذلك لمراعاة تكونيه وتركيبيه من شِقَين، شِق روحي وشِق مادي، بمعنى أن القرآن الكريم يُخاطب الروح والجسد في الإنسان وكذا الفِعل والوجدان، فكُل قانون أو تشريع لم يأخذ الإنسان بشقيه بعين الاعتبار يكون مآله الفشل والإهمال أو بالأحرى الإلغاء مهما تعددت صوره.

 

الفقه يتسع مَجاله بِكثرة النوازل الغير المنصوص عليها في القرآن والسنة مما يدفع بالفقهاء المجتهدين الذي امتلكوا من الآليات من ضبط اللغة العربية، لتمَكِنُهُمُ وتُيسير لهم البحث وفق ضوابط وأصول عن حُكُم الشرع فيها
الفقه يتسع مَجاله بِكثرة النوازل الغير المنصوص عليها في القرآن والسنة مما يدفع بالفقهاء المجتهدين الذي امتلكوا من الآليات من ضبط اللغة العربية، لتمَكِنُهُمُ وتُيسير لهم البحث وفق ضوابط وأصول عن حُكُم الشرع فيها
 

لهذا كانت مهمة الفقه هي مراعاة هذه الجوانب كلها تبعاً لأصله في ذلك -القرآن والسنة- ويعتبر إلغاء هذا الجانب من أهم العوامل التي أدت وتؤدي إلى تعطيل القوانين الوضعية أو ما يعرضها لزوال، بالإضافة إلى عدم ثَباتِها والمستندة في بعضٍ منها إلى المصلحة الشخصية أو النزعة الفردية أو إيديولوجية معينة يحكمها التعصب والنَرجسية أحيانا ويثيرها التسلط والاستبداد أحيانا أخرى.

 
أما الفقه فإن ما يضمن بقاءه صالحا لكل زمان ومكان إلى جانب مراعاته للمصلحة الإنسانية وانبثاقه من روح الإسلام -كلام الله وسنته رسوله محمد- أن هناك عامل من الأهمية بمكان ألا وهو عامل الحياة، أي بمعنى أنه يتطور بِتَطَور الحياة وهذا ما يُميزه عن القوانين الوضعية الغِالبة عليها المصلحة النسبية تارةً والمطلقة تارةً أخرى، لجهة ما على المصلحة العامة، فهو -الفقه- يبقى عادل في شموليتيه لكل فرد مهما اختلف جنسه وسنه. دون أن نستثني بعض القواعد التي تبقى دائرة ً في فَلَكِ الاختلافات لا الخلافات، التي لا تتعدى عدد الأنامل ولا حركة العوامل، كما مَثًلَ ابن خلدون في مُقدمتهِ وفي موقع أخر.

فالفقه يتسع مَجاله بِكثرة النوازل والطوارئ الغير المنصوص عليها في القرآن والسنة مما يدفع بالفقهاء المجتهدين الذي امتلكوا من الآليات من ضبط اللغة العربية في أدواتها ورسومها ومباحث الألفاظ فيها والنحو وأثره على المعنى، فتُمَكِنُهُمُ وتُيسير لهم البحث وفق ضوابط وأصول عن حُكُم الشرع فيها، فيقدِموا جواباً كافياً شافياً يقبلُه المنطق والعقل البشري السوي. فالفقيه هو الشخص الذي تَكَونت عنده الملكة الفقهية التي تُمكِنُه من استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية، فالشخص لا يسمى فقيها إلا إذا حاز مبادئ الفن والمقصود بالفن في هذا المقام العلم، فصاحب هذه الملكة هو المجتهد الفقيه على الحقيقة وهذا المبحث فيه ما فيه من الشروط والمبادئ.

 
فالفقه على هذه الأسس كائن حي، ومن أصدق أمارات الحياة، الحركة والنماء فلا بد له إذاً أن يتحرك ويتسع هنا وهناك وليس هذا إلا تطور يطال كل كائن حي، ويقول المستشرق النمساوي ألفرد فون كريمر في فضل الفقه الإسلامي وخصائصه من الناحية القانونية "إن الفقه الإسلامي هو أعظم عملٍ قانوني في تاريخ العالم يفوق القانون الروماني وقانون حمورابي نظرا لما فيه من حكمة إلهية وبناء منطقي هائل، لكن الفقه لم يُسجِل الشريعة في مواد قانونية محددة حتى لا يصيبها الجمود وتحتاج إلى تغير وإنما أبقى أحكام ومبادئ عامة، لذلك فهي صالحة لكل البشر في كل زمان و مكان".

 
هذه الحياة والتطور اللذين يتسم بها الفقه الإسلامي تجعلانه أيضا يتميز عن العلوم الأخرى، إذا أن فعاليتها تقتصر على الأمور الدنيوية كما أنه يشوبها القصور، في حين أن الفقه يجمع بين المصالح الدينية والدنيوية ولم ترجح كفة أحدهما على الأخرى إلا استثناءاً لصالح العبد، كما يشتمل على جميع فروع القانون الحديث العام منه والخاص فهو -الفقه- بحر زَاخِرٌ لا شاطئ له.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.