شعار قسم مدونات

الإنجاب في وطن السرداب

Blogs- dad
ولدي.. مهجة القلب وثمرة الفؤاد التي لم تينع بعد.. إليك أخطّ كتابي هذا..

تعلمنا أنّه كما للأب على ابنه حقاً، فللابن على أبيه حق كذلك.. وإني أعلم أن أوّل حق لك عليّ أن أختار أمك التي ترعاك وتحميك وتسترك وتأويك ولأن الوطن أم يا ولدي.. ولأن لي وطنا واحدا.. فلا بأس أن أقصّ عليك شيئا عن وطنك الأم، سأخبرك أنّي صرت أخشى عليك هذا الوطن.. ذلك أني أخشى بإنجابك في هذا الوطن أن أكون قد عققتك قبل أن تعقّني..

فما صرت أخشى شيئا خشيتي من لحظة ميلادك.. أخشى عليك وعلى أمك من السرير الطبي الذي يهب الموت لمن يتشبث بالحياة، فصار يقتل بدل أن يحيي ويُعلّ بدل أن يعالج.. ذلك أن الصحة في وطني مريضة وقد ضرب الإهمال جذوره في القطاع حتى استشرى داؤه واستعصى على الراقع دواؤه، وما أكثر الملفات التي أغلقت وقد خُتم عليها بعبارة سمجة "وفاة حامل وجنينها" هكذا ببساطة، بل وكثيرات هنّ من لم يحظين بشرف حصولهن على سرير طبي.. آخرهن تلك السيدة العشرينية التي لفظت أنفاسها ووليدها في سيارة أجرة بعد أن رفضت ثلاث مستشفيات استقبالها.

فإن كتب الله لك الحياة فإني سأخشى عليك المدرسة، أخشى عليك المناهج التربوية التي وُضعت خصيصا لتجهيل الناشئة لا لتعليمهم ولاستغباء التلاميذ لا لتثقيفهم.. سيلقّنونك الحروف الهجائية ثم يعوّدونك بعدها كيف تصير عبدا بالتدرّج بحجة "من علّمني حرفا صرت له عبدا" سيعلمونك كيف تقوم للسادة وتركع.. سيدربونك على الضعف والاستكانة ستتلقى المعلومة دون أدنى اعتراض أو نقاش..

ستقرأ في الجغرافيا أن وطنك من أكبر الأوطان ثم تكتشف أن كل شساعة هذه الأرض عاجزة عن إيواء عائلة شريدة تبيت بلا مأوى
ستقرأ في الجغرافيا أن وطنك من أكبر الأوطان ثم تكتشف أن كل شساعة هذه الأرض عاجزة عن إيواء عائلة شريدة تبيت بلا مأوى
 

تكبر قليلا فتقرأ تاريخ بلدك ستتعرف على كم الأبطال والشهداء الذين ضحّوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل استقلال الوطن ستندهش لكمية الدماء التي ارتوت بها أرضك لتنعم بها أنت ومن سبقك من جيل ما بعد الاستقلال.. ثم ستكتشف أن من لم يمت من أجل الوطن مات على يديه ومن نجا من الاستعمار قُتل بأيدي الانتداب..

 

ستفهم أن وطنك اختطف ذات غدر من قبل عصابة في ليلة ظلماء غاب فيها القمر والضمير.. وستقرأ في الجغرافيا أن وطنك من أكبر الأوطان ثم تكتشف أن كل شساعة هذه الأرض عاجزة عن إيواء عائلة شريدة تبيت بلا مأوى.. ستقرأ أن دولتك من أغنى الدول وستعرف أن تحت أرضها تمتد أنابيب من الغاز لتصل إلى أقاصي الأرض ثم تكتشف أن كل هذا النفط عاجز عن تدفئة أطفال مدارس القرى النائية.. ستكتشف مع الزمن فوارق طبقية هائلة فذاك له مال قارون ولا أحد يسأله أو يسأله: من أين لك هذا؟ وذلك جالس في مقهى شعبي منتظرا لحظة سهو من "القهوجي" ليستغفله ويفر من سداد ثمن مشروبه الذي لا يملك حتى عُشره..

ستصلي في المسجد فترى الإمام واقف على المنبر وقد احمر وجهه وانتفخت أوداجه وهو يروي قصة امرأة دخلت النار في قطة لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض.. ثم تسمعه يختم خطبته بالدعاء بطول العمر لمن سجن وجوّع شعبا بكامله.. لا هو أطعمه ولا هو تركه يسيح في الأرض.. سيحدّثكم في لحظة تصوّف وخشوع أن الفقراء أول من يدخل الجنة ثم تسمعه يطالبكم بوجوب تغيير سجاد المسجد الوثير لأنه لم يعُد مريحا..

سيصبح وطنك مصدر هوس ورعب بالنسبة لك إن لم توافق أو تنافق وستفكّر لحظتها في هجرته .. لكنّك عبثا تحاول إذ ستكتشف أن لك جواز سفر لا يساوي شيئا ولن تستطيع أن تسافر به لأيّ مكان

ستتخرج من الجامعة وستؤدي واجب الخدمة الوطنية لتكتشف أخيرا أن الوظائف حصر على أهل الوساطات ولمن يدفع أكثر.. ستيأس وتفهم أنّ هذا الوطن لا يتّسعُ لأحلامك، وأن أرضيته غير صالحة لبَذْر ثقافتك وأن هذا الوطن الذي تحفظ تاريخه وأمجاده وأناشيده قد أركسك إلى الأرض بعد أن حرمك حقوقك المتمثلة في أبسط مقومات الحياة.. سيضيق عليك حينها رغم اتساع مساحته.. سيستيقظ ضميرك.. ستنتفض وتطالب بحقك فتفاجئ أن وطنك يفتح لك ذراعيه لأول مرة ستفرك عينيك غير مصدّق أنه انتبه أخيرا.. وأن أبوابه قد فتّحت في وجهك على مصراعيها.. لكنك ستكتشف أنها ليست إلا أبواب السجن..

سيصبح وطنك مصدر هوس ورعب بالنسبة لك إن لم توافق أو تنافق وستفكّر لحظتها في هجرته .. لكنّك عبثا تحاول إذ ستكتشف أن لك جواز سفر لا يساوي شيئا ولن تستطيع أن تسافر به لأيّ مكان.. فكل وجهة مغلّقة في وجهك وكل من على وجه البسيطة من أقطار الأرض ينظر إليك شزرا بعين الريبة والشك لأنّك تنتمي لهذا الوطن.. ستلجأ حينها إلى طريق الهجرة عبر قوارب الموت فرارا من قدرك ووطنك الذي لا ينفكّ يطاردك كأنه وصمة عار على جبينك.. ستعلم يقينا أنّك إن ظللت فيه حُرمت النوم بالأرق وإن هجرته حُرمت الوصول بالغرق.. سيسدل الستار لتكتشف أخيرا أن وطنك يستورد كل شيء من مباح وغير مُباح لكنّه لا يصدّر إلا الأرواح..

أعلم أن السعادة والشقاء بيد الله لكنّي لا أريد أن أهبك الزيف بدل الحقيقة والموت بدل الحياة.. لا أريد إنجابك طمعا في خلود وهمي ولا إرضاء لغرور نفسي.. ولا الإنجاب من أجل الإنجاب فالفأر يفعل ذلك.. أنا باختصار لا أريد ارتكاب جرم إنجابك في وطن معتلّ كأنما هو سرداب مظلم.. شمس الأمل فيه قد حجبتها سحب داكنة تأبى الانقشاع ، ووسائل إعلامه لا تزال تعمل جاهدة من أجل إقناعنا أن الظلام أفضل لنا من الضوء.

صحيح يا ولدي أننا نعيش ألم هذا الوطن الذي وُلدنا فيه قدرا، وأن قدومك من عدمه تبقى مشيئة الله، لكنّي حقا وصدقا لا أرضى لك أن تشهد الفجيعة كما شهدناها ولا المأساة كما رأيناها.. لذلك فسؤالك لماذا لم تنجبني بعد؟ خير عندي ألف مرّة من سؤالك لي: لماذا أنجبتني في هكذا بلد؟

ختاما سيهمس يعضهم في أذنك: أن أباك يكره وطنه، لا تصدّقهم.. يكره وطنه من يمدحه على دمامته ويفخر به على بشاعته من لا يفعل ذلك يحب وطنه.. يرجو له وفيه صلاحا.. نعم يحب وطنه لأنه لا يرضاه اسطبلا.. بل يرجوه وطنا.. وطنا كسائر الأوطان. فالوطن قبل أن يكون أرضا وترابا وعَلما هو حرية تامة وكرامة محفوظة وحقوق مكفولة.. وإلى أن ينصلح حاله ويصير هذا مآله.. مرحبا بك بيننا في وطنك الأم..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.