شعار قسم مدونات

قرار مجلس الأمن.. وعهد ما بعد أميركا!

Blogs- مجلس الأمن
مهّد سقوط الاتحاد السوفياتي إلى تحويل بنية النظام الدولي، حيث تم الإطاحة بنظام ثنائي القطبية وتشكيل نظام عالمي جديد أحادي القطبية، برزت فيه الولايات المتحدة كقوة مهيمنة على النظام الدولي سياسيا وعسكريا واقتصاديا، وكدولة عظمى قادرة على قيادة العالم والتصرف بصورة فردية. ولكن هذا النظام العالمي الذي تتزعمه الولايات المتحدة، كما يرى الكثير من المراقبين السياسيين، بات مهددا بالعديد من التحولات التي تنذر بتغير جوهري في بنية النظام الدولي وطبيعة العلاقات الدولية. 
 
وفي ظل التغيرات التي يشهدها النظام العالمي، انشغل مفكرو الولايات المتحدة بدراسة تحول موازين القوى من الغرب إلى الشرق، حيث يعتقد العديد من الباحثين أن الولايات المتحدة لم تعد القوة المهيمنة عالميا، بل أصبحت قوة في طور التراجع الذي يجعلها تسير على خطى باقي الإمبراطوريات والقوى العظمى التي صعدت وسقطت من قبلها. ويعود هذا التراجع، حسب هذا الجدل القائم، للعديد من النكسات الاقتصادية والسياسية والعسكرية -المتمثلة بشكل رئيسي بالحروب غير المبررة التي خاضتها أمريكا في العراق وغيره- وتآكل الديمقراطية الأمريكية وتدهور قيمها الإنسانية -وخاصة بعد أحداث سبتمبر والحرب على الإرهاب-، فضلا عن أثر العولمة وظهور قوى منافسة على الساحة الدولية كالصين والهند.
 
يبدو أن هذا الجدل حول تراجع الهيمنة الأمريكية واضمِحلال تأثيرها العالمي، قد بلغ ذروته في عهد الرئيس دونالد ترمب. فمن خلال تقديم شعار "أمريكا أولا"، أدت سياسات ترمب الخارجية المتهورة وغير المدروسة – كالانسحاب من اتفاقية المناخ واليونيسكو، وشن حروب كلامية وإهانة العديد من زعماء العالم على سبيل المثال- إلى زيادة عزلة واشنطن الدولية، وبالتالي إلى تحجيم دور الولايات المتحدة في زعامة العالم. فقد أثارت أفعال ترمب هذه استياء الحلفاء والأعداء على حد سواء، وأدت الى تدني علاقات الولايات المتحدة مع حلفائها التقليدين في أمريكا الشمالية وأوروبا.
 
ففي مقال نشر في صحيفة "الواشنطن بوست" بعنوان "قل مرحبا لعالم ما بعد أمريكا" (Say Hello to a Post-America World)، استعرض السياسي والإعلامي الأمريكي فريد زكريا ردة فعل العالم حيال "حالة الجنون" التي أصابت الولايات المتحدة في عهد ترمب، حتى أن البعض بدأ يشكك بالقيَم الأمريكية (American values)، ويرى أن الولايات المتحدة كحضارة ومشروع، لم تعد بنفس الأهمية التي كانت عليها في السابق. وبالرغم من أن حملة المعادة لـ"الأمركة" (anti-Americanism) هذه ليست بالشيء الجديد، كما بيّن المقال، إلا أنها أخذت شكلاً جديداً تحت قيادة ترمب -شكلاً لم يسبق له مثيل-، ويرى زكريا أن سياسات ترمب " السخيفة، والعبثية، ومحدودة الأفق" ستعجل في قدوم ما أطلق عليه "عالم ما بعد أمريكا."
 

لا أريد أن أعول كثيرا على زعماء العرب أو أن أبدو متفائلة إلى حد السذاجة، ولكن أريد أن أؤكد أن القطار لم يفتنا بعد، وأن إيجاد مكان للوطن العربي بين دول العالم ما زال ممكنا
لا أريد أن أعول كثيرا على زعماء العرب أو أن أبدو متفائلة إلى حد السذاجة، ولكن أريد أن أؤكد أن القطار لم يفتنا بعد، وأن إيجاد مكان للوطن العربي بين دول العالم ما زال ممكنا
 

يبدو أن عهد ما بعد أمريكا قد ابتدأ بالفعل، فاستياء العالم من قيادة واشنطن واستخفافه بقرارات ترمب ووعده ووعيده، بدا جليا في قرار مجلس الأمن بشأن قضية القدس، حيث صوت ثلاثة أرباع العالم ضد مشروع ترمب بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل. وبغض النظر عن رمزية هذا القرار، فقد كشف عن عزلة واشنطن الدولية؛ وبالتالي تراجع الهيمنة الأمريكية وتدهور قدرتها على قيادة العالم والتأثير به، كما جاء القرار بمثابة صفعة في وجه ترمب وطعنة في هيبة أمريكا الدبلوماسية.
 
إن تغيرات بنية النظام الدولي المتمثلة بتراجع الدور الأمريكي عالميا تستحق بعض التأمل؛ ففي ظل تراجع زعامة واشنطن العالمية، قد لا تجلب سياسة الانصياع والتودد "للزعيم الأمريكي" -التي تتّبعها أغلب الدكتاتوريات العربية- النتائج المرجوة، فبدل التعويل على القوى الخارجية للحفاظ على كراسيهم والمراهنة على رئيس أمريكي "يتصرف كطفل عمره خمس سنوات" كما يصفه بعض منتقديه، قد يكون من الأحكم أن يلتفت الزعماء العرب إلى الداخل ويعملوا لنيل دعم شعوبهم بدلا من قمعهم.
 
بالإضافة إلى ذلك، فإن تغيرات شكل النظام الدولي قد يكون لها تداعيات على مستقبل الوطن العربي ومكانه في المنظومة الدولية؛ فلطالما تمحورت البنية السياسية للعالم العربي حول مفهوم العجز والخضوع للقوى العظمى -خاصة أمريكا- التي تعمل باستمرار لإقصاء القوى الأضعف في المنظومة الدولية -ما يمكن تسميته بنظرية المؤامرة-.
 
في اعتقادي، إن نظرية المؤامرة هذه مرتبطة إلى حد كبير بالمفهوم السائد لتوازن القوى في النظام الدولي الذي يقتضي بأن الدول القوية (الغرب عامة وأمريكا خصوصا) هي التي تهيمن على الساحة الدولية، وتقود العالم وفقا لمصالحها، في حين أن الدول المستضعفة، ليست إلا حجر شطرنج تحركه القوى المهيمنة كما تشاء.
 

لم يجمع العرب على دعم القضية الفلسطينية فحسب، وإنما على رفض قرار أمريكي في وقت اعتدنا فيه رؤية معظم زعماء العرب وهم ينصاعون لأوامر
لم يجمع العرب على دعم القضية الفلسطينية فحسب، وإنما على رفض قرار أمريكي في وقت اعتدنا فيه رؤية معظم زعماء العرب وهم ينصاعون لأوامر "الزعيم في البيت الأبيض"
 

مما لا شك فيه أن الصراع حول القوة ورغبة الدول في فرض هيمنتها وإرادتها على الدول الأخرى هو مبدأ أساسي في العلاقات الدولية، ولكن تحولات بنية النظام الدولي التي نشهدها الآن، قد غيرت إلى حد ما المعادلة التقليدية لتوازن القوى الدولية، ومكنت بعض دول العالم الثالث من الصعود على الساحة العالمية، هذا ما أكده فريد زكريا في كتابه "عالم ما بعد أمريكا" (The Post America World)، حيث بين أن الولايات المتحدة لم تعد تشكل القوة العظمى بلا منازع، وذلك بسبب ما سماه "صعود بقية العالم" (the rise of the rest)، وظهور قوى منافسة على الساحة الدولية التي حدّتْ من قدرة الولايات على فرض هيمنتها على بقية العالم كما فعلت سابقا.
 
هذا من شأنه أن يعطينا ولو قليلا من الأمل بأن يتحرر الوطن العربي من معضلة الخضوع للقوى العظمى وأن يتبوأ مكانه بين الدول، فالصعود إلى الساحة الدولية لم يعد مستحيلا، كما أن اتحاد العرب في مجلس الأمن بشأن قضية القدس، علّه يعطينا جرعة مضاعفة من التفاؤل، فلم يجمع العرب على دعم القضية الفلسطينية فحسب، وإنما على رفض قرار أمريكي في وقت اعتدنا فيه رؤية معظم زعماء العرب وهم ينصاعون لأوامر "الزعيم في البيت الأبيض"، وينحنون وهم صاغرون أمام الجبروت الأمريكي. ولكن، وبالرغم من تهديدات ترمب بقطع المساعدات عن الدول التي تُصوِّتُ لصالح هذا القرار، انتفض الزعماء العرب جميعا في وجه ترمب من أجل قضية عربية مشتركة.
 
لا أريد أن أعوّل كثيرا على زعماء العرب، أو أن أبدُوَ متفائلة إلى حد السذاجة، ولكن أريد أن أؤكد أن القطار لم يفتنا بعد، وأن إيجاد مكان للوطن العربي بين دول العالم ما زال ممكنا. ولا يسعني الآن سوى تصور القوة التي سنكون عليها لو اتحد العرب في عهد ما بعد أمريكا!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.