شعار قسم مدونات

الأتراك وقبر الرسول وعبد الله بن زايد

Blogs- فخر الدين

في الوقت الذي يتطاول فيه أحد نكرات "تويتر" على فخر الدين باشا، حامي المدينة من الإنجليز، وعلى الأتراك والدولة العثمانية ويدعمه ابن زايد، أحببت أن أستحضر أحد أسباب تأخر سقوط المدينة المنورة في أيدي القوات الإنجليزية وقوات الثورة العربية، وبقاءها في أيدي الأتراك لأطول فترة ممكنة تحت الحصار؛ هذا السبب له جذور ضاربة في التاريخ وجذور روحانية صوفية اشتُهِر بها الأتراك في علاقتهم مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .كان الأتراك ينظرون إلى أنفسهم على أنهم حامو القبر الشريف وأن حمايته واجب عليهم تناقلوه عبر الأجيال، فقد سجل التاريخ للأتراك ثلاثة أحداث حموا فيها قبر الحبيب، صلى الله عليه وسلم.

 
كانت المرة الأولى في عهد السلطان السلجوقي آلب آرسلان حين انتصر على أضخم تحالف صليبي في ذلك الوقت في معركة منازكرد أو ملاذ كرد أو معركة الأكفان (سنة 1071م). كان هذا التحالف المسيحي الضخم (400 الف مقاتل) والذي يعدّ تمهيدا للحروب الصليبيية، يهدف إلى اقتلاع جذور الإسلام تماما، وكان هدفه النهائي الوصول إلى قلب الجزيرة العربية وتدمير مكة والمدينة ونبش القبر الشريف، كما صرح بذلك الإمبراطور البيزنطي أرمانوس عندما راسله ألب آرسلان لعقد هدنة فقام برفضها وأصر على المضي قدما لاستئصال الإسلام، فلم يقف في وجهه سوى ألب أرسلان وجيشه (17 ألف مقاتل) بعدما ارتدوا أكفانهم لعلمهم أنهم آخر حصن للإسلام وقتها وأنها معركة لا رجوع فيها، فنصرهم الله نصرا مظفرا وأفشلوا ذلك المخطط الصليبي لتدنيس الأرض المقدسة والجسد المقدس.
 
وكانت المرة الثانية في عهد السلطان التركماني نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي وقصته المشهورة، التي ذكرها جمع من المؤرخين، منهم ابن كثير الدمشقي في "البداية والنهاية"، مع نصرانيين جاءا من المغرب كحجاج لنبش القبر الشريف، إذ رأى هذا السلطان النبي صلى الله عليه وسلم في المنام يشده من ثيابه ويهزه ويقول له: يا محمود، أنقذني من هذين، ثم يشير إلى رجلين. وبعد تكرر هذا المنام، عزم السلطان نور الدين محمود على شد الرحال إلى المدينة المنورة من الشام. وهناك طلب أن يجتمع جميع الرجال في المدينة ليراهم، فتفحص الجميع فلم ير من رآهما في المنام فسأل الناس إن بقي أحد فأخبروه بعدم حضور رجلين جاءا من المغرب للحج، وهما من الصالحين! فطلب لقاءهما، فلما رآهما عرفهما وسألهما عن شأنهما فأخبراه بما أخبره به الناس، فأمر بتفتيش بيتهما الذي كان يجاور الحجرة النبوية، فوجدوا فيه حصيرا تحته سرداب محفور في اتجاه القبر الشريف، فارتعد الناس وبكى نور الدين فأمر بضرب عنقيهما بعد أن قصا خبرهما، ثم أمر بحفر خندق حول الحجرة النبوية وصبه بالرصاص حماية للجسد الشريف.
 

أخذ الأتراك عهدا على أنفسهم بحماية المقدسات الإسلامية، وخاصة المدينة المنورة، التي حظيت بمعاملة خاصة منهم لاحتوائها على جسد معشوقهم صلى الله عليه وسلم، الذي أحبوه حد العشق
أخذ الأتراك عهدا على أنفسهم بحماية المقدسات الإسلامية، وخاصة المدينة المنورة، التي حظيت بمعاملة خاصة منهم لاحتوائها على جسد معشوقهم صلى الله عليه وسلم، الذي أحبوه حد العشق
 

أما المرة الثالثة فقد كانت في نهاية القرن الخامس عشر الميلادي، حين بدأت اسبانيا والبرتغال في الظهور كقوى أوربية استعمارية غارقة في التعصب الديني "فقد ذكر الأستاذ جلال كشك في (حوار في أنقرة، ص 22 -بتصرف) أن الاستعمار الغربي الذي ظهر مع قيام الدولة العثمانية كان يحمل طابع الإبادة القومية والاستئصال، والدليل ما حدث مع الإسلام والمسلمين في الأندلس". فبعد ضعف سلطنة المماليك البرجية ومع اكتشاف طريق رأس الرجاح الصالح بات البحر الأحمر مكشوفا أمام البرتغاليين، فصارت الفرصة سانحة لهم لأخذ الثأر من الإسلام والمسلمين وتجفيف منبعه. فبعدما قاموا باحتلال غرب اليمن وقتها باتوا يتطلعون لاحتلال جدة، ثم احتلال مكة والمدينة واستئصال الإسلام من جذوره وإهانة القبر النبوي الشريف لتدنيس الجسد الطاهر انتقاما من الإسلام والمسلمين، إلا أن قدر الله سبقهم فأخرج لهم من الأناضول أسدا تركيّا عبوسا قاطعا قام بدحر مخططهم بعدما وحّد بلاد المسلمين تحت إمرته وفرض سيطرته على البحر الأحمر وجعل الحرمين تحت وصايته، فكان أول من تلقب بلقب "خليفة المسلمين" من غير العرب وكان أول من حمل لقب خادم الحرمين من بني عثمان، إنه السلطان ياووز سليم خان الأول.
   
ومن ذلك الحين أخذ الأتراك عهدا على أنفسهم بحماية المقدسات الإسلامية، وخاصة المدينة المنورة، التي حازت على معاملة خاصة منهم لاحتوائها على جسد معشوقهم صلى الله عليه وسلم، الذي أحبوه حد العشق فلا يذكرونه إلّا ووضعوا أيديهم على صدورهم لإرجاع قلوبهم إلى مكانها بعدما قفزت شوقا لذكراه ولطمأنتها بالمسح عليها كما طمأن الرسول ذلك الجذع الذي بكى حنينا له! هذا العشق الصوفي الروحاني كان أحد أسباب تأخر سقوط المدينة في أيدي الإنجليز وقوات البدو حتى 1916 م، أي بعد ثلاث سنوات من قيام الثورة العربية الكبرى وسقوط مكة المكرمة من أيدي العثمانيين، فقد كان الأتراك ينظرون إلى القبر النبوي والجسد الشريف على أنه أمانة في أعناقهم توارثوا حمايتها من الكفار عبر الأجيال.

 

فخر الدين باشا، هذا الرجل الذي أعجب به عدوه قبل صديقه فأطلق عليه الإنجليز لقب
فخر الدين باشا، هذا الرجل الذي أعجب به عدوه قبل صديقه فأطلق عليه الإنجليز لقب "النمر التركي" و"نمر الصحراء"، كيف يقوم نكرة من نكرات تويتر بالإساءة إليه وإلى قومه!
 

لذلك كانت الحاميات العسكرية التركية توجد بكثافة في المدينة المنورة، مقابل بضع حاميات عسكرية في مكة المكرمة، فعند حصار فخر الدين باشا وجيشه في المدينة بلغ تعدادهم 70 ألفاً، ولك أن تتخيل ضخامة هذا العدد لحماية المدينة وساكنها صلى الله عليه وسلم، ولك أن تتخيل مدى الحب والوفاء لسيدنا محمد، والذي ترجمه "النمر التركي" (كما لقبه الإنجليز) فخر الدين باشا بموقفه الصارم تجاه التسليم وبقوله الذي خلده التاريخ "لن نستسلم أبداً ولن نسلم مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم لكافر لا يتوضأ ولن نسلمها للإنجليز ولا لحلفائهم".

   
ثلاث سنوات، صمود أسطوري وعشق أسطوري، إلا أن نفاد الذخيرة ونفاد المؤونة وحر الصحراء والاتفاقيات الدولية كانت أقوى.. ورغم كل هذا كان شرط فخر الدين عند تسليم المدينة أن يسلمها للقوات العربية، لأنهم مسلمون، وألّا يحضر إنجليزي واحد هذا التسليم. هذا الصمود الأسطوري لم يعجبنا نحن وحسب، بل أعجب حتى الشريف حسين بن علي، الذي قام باستقباله استقبالا رسميا حرص على أن يُرضى به كرامة وكبرياء هذا الرجل العظيم والموافقة على كل شرط من شروطه دون أي نقاش. هذا الرجل الذي أعجب به عدوه قبل صديقه، فأطلق عليه الإنجليز لقب "النمر التركي" و"نمر الصحراء"، يقوم نكرة من نكرات "تويتر" بالإساءة إليه وإلى قومه ويقوم وزير خارجية الإمارات، الذي يُفترض أنه مثقف أو على الأقل دبلوماسي، بإعادة تغريد كلام ذلك النكرة، يا للعجب!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.