شعار قسم مدونات

جامعة القدس.. والانتفاضة الثانية

Blogs- جامعة القدس
يحضرني في واقع القدس أشياء أكبر من الذكرى، وتعيدُني هذه المسيرات حيثُ كُنا في عام ٢٠٠٠م، حيثُ قامت الدنيا ولم تقعُد، حيث انتفٙض الذين ولدوا في الانتفاضة الأولى في انتفاضةٍ ثانية، هناك في مكانٍ ما على أرض فلسطين كُنتُ قد اجتزتُ الثانويةٙ العامة في عام ٢٠٠١ في الفرع العلمي، وحصلتُ على مُعدلٍ حمل الفرحة للكثيرين.
 
لكنه لم يحملها لي في ذلك الوقت، كان معدلي ثمانية وتسعين وخمسة أعشار التاسع مُكرّر على مستوى الضفة، وأكره تسميتها الضفة فهي فلسطين برغم مشيئة من أراد غير ذلك، فالتحقتُ بكلية الطب في جامعة القدس أبوديس في فلسطين، وكانت الانتفاضة الثانية في أوجِ خضمها حيثُ غيّرت ملامحُ الأرض وانتشر قوات الاحتلال في كل شارع يومها. كان العالم يعيشُ هدوءهُ المعتاد، لم تكن الثوراتُ قد وُلدت، ولم يكن الربيعُ الذي ذكروه قد حلّ في أيٍّ من المحيط المُجاور، كانت المحيطاتُ خالية من الجثث الهاربة، كانت الجثث تنتشرُ فجأة بدون سابق إنذار وقتها.
  
في اللحظةِ التي كُنت تقفُ فيها على ناصيةِ بيتك لتركبٙ الحافلة لتمضي إلى جامعتك، وتتردد برغبتك للذهاب وتفكر كلياً بعدم حضور محاضرتك وأنت تضعُ يدك في جيبك، كُنّا هناك نُفكّر أيّ الطرق تلك التي سنسلُكُها إلى بلدة أبو ديس، فطريقُ الأمس تغيّرت ملامحُه عن طريق الغد الذي سيُعلنون فُجاءتهُ لنا لاحقا ً، هكذا كان جنود العدو يحاولون إثباطنا عن الوصول يوميا، وهكذا كُنا نحن نُتقنُ لُعبةٙ المتاهةِ معهُم، يتقنون هم التقليل من حقوقنا.
 
نتقنُ نحن التأقلُم لصُنع واقعٍ يعاكسُهُم. أذكرُ أياماً عشنا فيها ضنك سفرٍ يوجدُ فُجاءةً، فالطريق التي تمتدُّ ٦ ساعات، وأحياناً تمتدُّ إلى عشرة، في حقيقتها كان من المُستبعد أن تتجاوز الساعة و النصف، وطرقُ الشمال كانت أدهى وأمٙر، فكانت الـ٢٤ ساعة بديلَ الساعتين، هكذا كانت الأمور معقدة بائسة، بعيدين كُنا عن كل محطات التلفزة، كان العالمُ شيئاً من الرفاهية بالنسبةِ لنا، كان انهيار المباني الشامخة جزءاً من الصورة المكررة، صوت القنابل كان جزءا من الهواء، أما الآن صار العالم جزءاً من الحرب التي لا تنتهي، صار المجاور كالداخل.
  

لم نترك جامعتنا لندرُس في أخرى، كُنا نقفُ على بوابة الجامعة بجانب دبابتهم ودخانِهم المُسيل للدموع، لنحبسٙ أنفاسنا، ويبتسمُ كُلٌّ منا للآخر ثم نوزّع المناديل على بعضنا ونبدأ المحاضرة
لم نترك جامعتنا لندرُس في أخرى، كُنا نقفُ على بوابة الجامعة بجانب دبابتهم ودخانِهم المُسيل للدموع، لنحبسٙ أنفاسنا، ويبتسمُ كُلٌّ منا للآخر ثم نوزّع المناديل على بعضنا ونبدأ المحاضرة
 

كانت هناك قصةٌ تحاك، تدعى قصة الجدار العازل، تلك قصةٌ أخرى ابتدعها المبتدعون استكمالاً لتشويه أي شيءٍ يربطنا، كانت شيئا لا وجود له هذهِ الحدود التي وُجدت ما بين الخليل والقدس وما بين القدس وضواحيها وما بين الشمال والقدس. تخيّل لم تكُن هناك قبل أربعة عشرة سنة، ولكنها صارت جدارا منيعاً مُحصّناً ثابتاً وكأنّه جبل موجود منذُ الأزل. يتقنون هم تصغيرٙ مطالبنا، ونتقنُ نحنُ الاعتياد، برغم هذا كُله كُنا نستيقظُ كُل يوم ننجزُ مهامنا، نُصلي الفجر وننطلقُ إلى كُلية الطب التي كانت طور البناء، وكانت قد خرّجت فوجها الأول في عام ٢٠٠١ في نفس العام الذي بدأتُ سنتي الأولى فيها، أي أن الفوج الأول تخرّج من كُلية طبٍّ كانت قاعةً في مبنى العلوم لتُنحت كلية كاملة في الصخر، كُليةٌ راهن الأقوياء على أنها لن تقوم لها قائمة، ولن يُذاع لها صيت ولن يتخرّج منها طبيب ولن يعودٙ إليها مُعيد!

 
لكنها أبت وتجبّرت وتحدّت حتى صارت، وتألّقت وصارت تُنبئ بفوجٍ جديد في كل عالمٍ بعد الألفين، فتوافقٙ الفوج السابع عشر لعام ٢٠١٧، فملأ خريجوها العالمٙ أجمع، خريجوها الذين أخذوا بأيدي بعضهم البعض ليجدوا مكاناً يجتمعون فيه لأجل محاضرةٍ هاجرَ مُحاضرها نتيجة الحصار والتضيي، وما بين هذا وذاك كُنا نحصلُ على مُحاضرٍ جديد طبيب قد جاء يبني الوطن، فلم يتوانَ بأن يستلمٙ الراية كي ينشئ أطباءً آخرين، وكُنّا حيثُ كُنّا نتسلّق جبال وادي النار، ونتزاحمُ على مداخل المُدن المُغلقة لنصلٙ إلى مُحاضراتنا، فينتظرُنا جنديّ الاحتلال لنعاود صعود الجبل من الطريق الآخر ونصل.
  
لم نهاجر، لم نترك جامعتنا لندرُس في أخرى، كُنا نقفُ على بوابة الجامعة بجانب دبابتهم ودخانِهم المُسيل للدموع، لنحبسٙ أنفاسنا، و يبتسمُ كُلٌّ منا للآخر ثم نوزّع المناديل على بعضنا ونبدأ المحاضرة، ومرّ ما ظنناه مستحيلا حتى وصلنا فترة التدريب العملي في المستشفيات، أذكرُ كيف كُنا ننتظرُ ما بين الفجر والشروق حتى يتم تبادل أدوار الحراسة بين جنود الاحتلال، لنصل هناك إلى مستشفى المقاصد في القدس؛ كي نبدأ المرور على المرضى، وقتها كان الحال مُختلفا، كانت تُمنع التصاريح لمن هم دون الـ٢٤ سنة، وبقينا نحاول حتى سُمحت لمن هم دونها، فقد كنت في الـ٢١، وحتى بوجود هذه التصاريح لم يكن باستطاعة جميعنا الوصول؛ كان هناك الممنوعون أمنيا، والمغضوب عليهم، فصارت العمادة توجدُ المستشفيات في الخليل ونابلس ورام الله، حتى يتمكن الجميع من التطبيق والدوام العملي، وبقينا دوما نحاول الوصول إليها؛ إلى القدس.
 
يستصغرُ الفارّون من وقائع الحياة الأفعال التي تولدُ فيك الرغبة ثم تصنعُ فيك الهمّة، ثمّ تُثري فيك الحُلم، ثم تشحذُ فيك القوة، ثم تجعلكٙ صاحب حقيقةٍ موجودة وجود الشمس
يستصغرُ الفارّون من وقائع الحياة الأفعال التي تولدُ فيك الرغبة ثم تصنعُ فيك الهمّة، ثمّ تُثري فيك الحُلم، ثم تشحذُ فيك القوة، ثم تجعلكٙ صاحب حقيقةٍ موجودة وجود الشمس
 

كان هناك ديرٌ بقي صامدا رغم مرورهم ورغم جدارهم ما بين العيزرية وأبوديس، كان بوابةً ما بين طرفي الجدار المزعوم، كُنا نجده ونمرّ من أبوابه كُلما أغلقوا مخرجاً، كُنا نجدُ مدخلا للقدس، كُنا نتحسس خطوات من أسريٙ به إليها وعرج منها إلى السماوات العلى -صلى الله عليه و سلم-، وكنا في كل مرة نعلمُ أنّا نجعل كُلية الطب وجامعة القدس منارةً أكبر وأقوى.

 
أذكُر تفاصيل امتداد الجدار، وتحفرُ تفاصيلها في كينونة كل شخصٍ كان في منارة التاريخ، في جامعة القدس حيث بدأ البناء الأول للجدار ليقسمَ الجامعة من منتصفها، كُنتُ في السنة الثانية من الدراسة، كُنا نحملُ مقاعدنا وأوراقنا لتقديم امتحاناتنا في ملاعب أطراف الجامعة اعتراضاً على آلياتهم، كانت حياتنا الوحيدة لوقف بناء جدارهم الإرهابي، لم نوقفه ولكننا على الأقل مٙنعنا تقسيم الجامعة، لم يكن يعلمُ أحد أن هذا الجدار سيُبنى، لم يكن أحد يسمعُ صوتنا، لم يكُن أحد يوقن باعتصامنا، فلا تُقلّل يوما من جدوى مواقع التواصل الاجتماعي.
 
الإعلام يُريك ما يُريد، أما أزرار هواتفنا المحمولة ومنابر "هاشتاغاتنا" تُنبئك بما يحدث حقاً، أستغربُ أحيانا امتعاضاتهم اللامتناهية، هكذا كُنا نصل، وهكذا تصل الشعوب إن أرادت، يستصغرُ الفارّون من وقائع الحياة تلك الأفعال التي تولدُ فيك الرغبة ثم تصنعُ فيك الهمّة، ثمّ تُثري فيك الحُلم، ثم تشحذُ فيك القوة، ثم تجعلكٙ صاحب حقيقةٍ موجودة وجود الشمس، موجودة وجود الكون، ها هي القدس ما زالت برغم الأنفاق تحتها، هاهي بيوتها ما زالت برغم الصهاينة المستوطنين في جنباتها، هاهي جامعة القدس ما زالت برغم كُل التضييق لأجل اسمها، هاهي كُلية الطب ما زالت برغم المُقْسمين بعدم نجاحها، ها نحن هنا باقون لأجلها وفيها، وبحول الله لها ما بين القدس و طبّي لا زالت الجعبةُ ملأى.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.