شعار قسم مدونات

المنكر ذلك المفهوم الغامض!

blogs خمر

في المدونة السابقة أشرت إلى أن أكثر مصطلحاتنا الدينية لم تحظ بتحقيق علمي كاف، يضع لها حدودا واضحة، تميز بين الأشباه والنظائر، وتتسق مع فلسفة القرآن العامة. على الرغم من خطورة هذه المصطلحات في الحياة الإسلامية. وضربت مثلا بمصطلح "سبيل الله" الذي يتردد في الخطاب الإسلامي، ويأخذ في الثقافة الشعبوية دلالة تتعارض مع موقف الإسلام الإيجابي من الحقوق والحريات. وفي هذه التدوينة سأضرب مثلا آخر قريب هو مصطلح "النهي عن المنكر"، الذي أصبح ذريعة دينية بيد الكثير من متطرفي المسلمين، للحد من الحقوق المدنية للناس. 

 

ولا أقصد بالمتطرفين هنا الجماعات التكفيرية والسلفية، وإنما أعني عموم المسلمين الذين يعتدون على حقوق بعضهم بعضا بذريعة النهي عن المنكر. فمن منا لم يسمع ذات يوم عن جماعة منعت حفلا موسيقياً، أو أفسدت فعالية مختلطة، بحجة النهي عن المنكر؟ ومن منا لم يشاهد معتوهاً يحطم تمثالا فنيا في إحدى الساحات بحجة النهي عن المنكر؟! وغيرها من حالات التعدي على الحقوق الخاصة والعامة، بما فيها حق الوقوع في الذنب وإرجاء الحساب عليه إلى يوم الحساب.

 

ليس كل منهي عنه في الدين يعد منكرا! والعلاقة بين الطرفين هي علاقة الجزء بالكل لا علاقة تضاد. فالمنكر هو بعض المنهي عنه في الإسلام لا كل المنهي عنه

وعلى الرغم من أن شيوخ الفكر الإسلامي قد وضعوا عددا من الضوابط التي تنظم عملية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المجتمع الإسلامي. ومنها قاعدة عدم جواز الإنكار في القضايا الخلافية. إلا أنه ظل مفهوماً غامضاً ومثقوباً بالفجوات المنطقية لمن يعرف مباحثه الفقهية معرفة جيدة. وذلك لأن هذا العلم، كغيره من علوم العرب، لم يقم على أسس صحيحة من البداية. ومن ثم فقد افتقر إلى فلسفة واضحة، تجيب عن أسئلته الأساسية، وتضعه في مكانه الصحيح من منظومة الفكر الإسلامية. فيا ترى أين تكمن مشكلة هذا المفهوم في الثقافة الإسلامية التقليدية؟

 

لقد كان حريا بدارسي هذا المفهوم أن يضعوا على أنفسهم من البداية السؤال الآتي: هل مفهوم المنكر مرادف لمفهوم الحرام؟ هل كل ما حرمته الشريعة أو نهى الله عنه يعد من المنكرات؟! قد يبدو السؤال غريباً بالنسبة للبعض، وربما تساءل: وهل هناك شك في أن كل منكر حرام وكل حرام منكر؟! وقد يزعجه أن نجيب بالنفي، فليس كل منهي عنه في الدين يعدا منكرا! والعلاقة بين الطرفين هي علاقة الجزء بالكل لا علاقة تضاد. فالمنكر هو بعض المنهي عنه في الإسلام لا كل المنهي عنه.

 

فمن خلال تأمل سريع لنصوص القرآن الكريم، ولمعاني اللفظ ودلالاته قبل ذلك، ترجح لدي، حتى لا أقول تأكد لي، أن المنكر لفظ يشير فقط إلى المنهيات التي تستنكرها الفطرة السوية. وهي في العموم ذات طبيعة اجتماعية. أما المنهي عنه فيشمل ذلك وغيره من الذنوب التي يقترفها المرء في حق نفسه وحق خالقه.

 

فالكفر على سبيل المثال ذنب. والكذب على الله أو تحريف رسالاته ذنب. وإيذاء المرء لنفسه ذنب. وكلها ذنوب منهي عنها. إلا أنها ليست مجالا للنهي عن المنكر. فليس من حق أحد أن ينهى أحداً على كفره مثلا. أو يعاقبه على الإيمان بدين محرف، أو على أنه آذى نفسه. فهذه أمور داخلة في حدود الحقوق الشخصية التي يحاسب عليها الله يوم القيامة. أما تلك السيئات التي يقترفها المرء في مجاله الاجتماعي، ويستنكرها العقل المشترك بين البشر على مختلف ثقافاتهم، فهي المنكر الذي يحث الدين على النهي عنه. بغرض تفعيل الرقابة الاجتماعية، في سبيل تحسين مستوى العيش وحماية المجتمع من السقوط والاضطراب.

 

ليست الموسيقى، مثلا، من المنكرات التي تستقبحها الفطرة، بل العكس هو الصحيح، لكن رفع الصوت بها لدرجة تؤذي الآخرين هو المنكر
ليست الموسيقى، مثلا، من المنكرات التي تستقبحها الفطرة، بل العكس هو الصحيح، لكن رفع الصوت بها لدرجة تؤذي الآخرين هو المنكر
 

والناظر في المعنى الأولي لكلمة منكر يدرك أن فعل "نكر" ينتمي إلى مجال الأفعال الشعورية في المقام الأول. أو ما كان يسميه المتقدمون بتقبيح العقل وتحسينه. فالقلب ينكر القتل والسرقة والكذب والخيانة والزنا، وما شابه ذلك من الأمور التي تؤذي الآخرين، حتى قبل أن ينهى عنها الدين. بدليل أنها مستقبحة في عرف الثقافات كلها، حتى لو خالفها الأفراد بسلوكهم عن ضعف واعتراف بالتقصير. وهذا ما أدركه، بشيء من الغموض، صاحب معجم مقاييس اللغة. حين علق على مادة "ن ك ر" بالقول: النون والكاف والراء أصل صحيح يدل على خلاف المعرفة التي يسكن إليها القلب. ونكر الشيء أنكره: لم يقبله قلبه، ولم يعترف به لسانه. أهـ
 

فالمنكر بهذا المعنى ليس ما استقبحته ثقافة هذا المجتمع دون ذاك، ولا ما أنكره هذا المذهب الديني أو ذاك، ولا كل ما نهى الله عنه، بل ما استنكرته جميع الثقافات بالفطرة المشتركة لأفرادها، حتى لو لم يرد فيه نص صريح. وهو بهذا التعريف محصور في أنواع محدودة يتأذى منها الآخر بصورة أو بأخرى. فليست الموسيقى، مثلا، من المنكرات التي تستقبحها الفطرة، بل العكس هو الصحيح، لكن رفع الصوت بها لدرجة تؤذي الآخرين هو المنكر. 

  

وهذا مثال آخر أكثر وضوحاً: ليس هناك شريعة سماوية تحرم قطع الأشجار أو إتلافها. كما أن ضمير الفرد لا يستقبح ذلك. غير أن قطع شجرة واحدة قد يصبح منكراً إذا كان القانون يمنع قطع الأشجار، أو إذا كان قطع الشجرة يحرم الآخرين من منفعة ما. والمنكر هنا هو مخالفة القانون، وحرمان الآخرين من النفع، وليس قطع الشجرة في ذاته. والنهي عن المنكر هنا هو واجب الفرد تجاه مجتمعه، لحمايته من الأفعال التي تهدد وجوده وسكينته وتقدمه. غير أن النهي هنا يأخذ صوراً مختلفة، منها إبلاغ الجهات المختصة بالحالة الخارجة عن القانون دون حاجة إلى التورط في نزاع فردي باسم النهي عن المنكر قد يؤدي إلى ما هو أنكر منه!

  

والقانون المدني هو الذي يحدد دور الفرد في النهي عن المنكر، لا الفقيه. لأن هذا الأخير نفسه قد يعجز عن استيعاب فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما دونته كتب الفقه، فما بالنا بالمواطن العادي، المأمور بالنهي عن المنكر على وجه الإجمال.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.