شعار قسم مدونات

لماذا فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم؟

blogs إبراهيم أبو ثريا

يحيّرني هؤلاء الشهداء. تحيرني تضحياتهم هذه. الشهداء جميعا، بغير تصنيف، سادتُنا. لكن بعض الشهداء يقدمون حياتهم كلها دفاعا عن قضية لا تكاد تتحرك خطوة للأمام. يقدمون أثمن ما يملكون لقاء أمل لا يكاد يُرى. ثمة شهداء يسقطون في معارك يمكن كسبها؛ هؤلاء يحلمون بالنصر، لكن لماذا يندفع آخرون نحو الموت بلا معركة تقريبا؟ هل هناك أية معطيات تشير إلى انتصار من أي نوع للشعب الفلسطيني؟ الظرف السياسي العالمي يشهد تقدم اليمين الفاشي في أمريكا وأوروبا والعالم العربي، والسلطة الفلسطينية لا تتعب من المناورات المفضوحة حتى لا تعترف بانهيار عملية السلام، بينما الانبطاح العربي غير مسبوق أمام الكيان الصهيوني.

 

لا شيء يبشرنا بانتصار قريب؛ أي انتصار. فهل كان إبراهيم أبو ثريا يجهل ذلك؟ لا أظن. الهزيمة لا تخفى على أحد. كتبت تدوينة عن شهيد مصري -ناشط نوبي- اسمه جمال سرور، كان مليونيرا لديه جنسية فرنسية، اختار أن يشارك في مسيرة تدافع عن حق النوبيين بالأغاني والدفوف، فاعتقل وأضرب عن الطعام وهو مريض سكر، أيضا رفض تدخل السفارة الفرنسية لإنقاذه، أراد أن يواجه كمواطن مصري.. لماذا تركت حياتك الجميلة واندفعت للموت بهذه الروعة يا عم جمال؟ ما الذي توقعته؟ أكان لديك أمل في أن يسود العدل في مصر قريبا؟ هل أظهر النظام المصري بادرة لإنصاف أي مظلوم أو مهمش؟

 

في عام 2008 قصفت مروحية إسرائيلية تجمعا لشباب فلسطيني، خلال عدوانها على غزة آنذاك، فاستشهد سبعة من رفاق إبراهيم وبُتِرت ساقاه. يحكي أخوه أن سبب استهدافهم هو إنزال إبراهيم علم إسرائيل ورفع علم فلسطين مكانه، فعل ذلك على الحدود وكان يعلم أنه قريب من الاستهداف، لكنه نجا من الموت بأعجوبة.

 

انظر يا إبراهيم كيف عرّيت المقولات الكبرى عن السلام والتعايش وقبول الآخر؟ البضاعة العالمية التي تبيعها جميع الأنظمة، رخيصة، لشعوبها، كيف يمكنها تبرير قتلك؟

في لقائه المصور يحكي الشهيد عن حياته قبل الإصابة وبعدها. كان صيادا يبيع السمك وأحيانا الخضروات في السوق. يبدو منزله فقيرا خشنا. ينام على مرتبة على الأرض. لسبب لا أفهمه هناك عارضة سرير خشبية مسنودة على الحائط المجاور لمرتبته، بزاوية طولية وليست عرضية كعارضة السرير العادي، أعني لم يكن لهذه العارضة فائدة، لكن إبراهيم كان يعيش حياة كالحياة. حياة في منزل يبدو مثل كراج سيارات جرى ترويضه، بغرف لا تشبه الغرف، بل مساحات أُجبِرت على تحمل بعض الأثاث…

 

"لازم نستحمل"، يقول إبراهيم في اللقاء. حُق لإبراهيم أن يحلم بحياة حقيقية مثلنا، في شقة ذات شرفة مشمسة وسرير كأسِرّتنا وحلم كأحلامنا، لماذا سَحَرَه رفعُ العلم الفلسطيني على الحدود التي يحرسها الصهاينة القتلة؟ كان في التاسعة عشرة تقريبا، ربما هي حماسة الشباب، ربما كان لديه أمل في انتصار ما فاستخف بالخطر المحدق. حسنا لماذا عاود رفع العلم قبل استشهاده بقليل، وعلى السياج المواجه لقناصة الجيش الصهيوني، وهو يعلم أن متظاهرين يتظاهرون حوله وأن شهداء على وشك الانطلاق للسماء؟ إذا كان ثمة أمل في المرة الأولى، فأين الأمل هذه المرة، وسياقنا السياسي العام قاتل لأي أمل؛ سياق فلسطيني مهزوم بائس، وعربي مخزٍ مشين، وعالمي جانح لليمين الفاشي؟

 

هل كان إبراهيم يائسا، كارها للحياة؟ ثمة لقاءات كثيرة سُجلت معه. يبدو أنه لم ييأس لحظة. يحكي عن قسوة حياته بعد بتر ساقيه؛ كيف يسير بالكرسي المتحرك ساعة ونصف الساعة من بيته إلى حيث يغسل بعض سيارات. يدفع بيديه عجلات كرسيه في عز الصيف والشتاء، يملأ دلوا ويتسلق سيارة ويمسحها جزءا جزءا ثم يجففها. يحكي عن راتبه كجريح فلسطيني وعن احتياجات أسرته التي لا يكفيها راتبه، فيضطر للعمل حتى لا تجوع أسرته.
 

 
"لازم نستحمل" يؤكد إبراهيم. حين سئل عن أمنيته تمنّى أن يحصل على كرسي كهربائي ليقلل عناء تنقله بدفع اليدين. يا ربي! لم يحلم إبراهيم بأكثر من كرسي لا يتعذب وهو ينتقل به من مكان لمكان. لم يحقق أحد منا أمنيته حتى قنصه سفاح صهيوني، استفزته شجاعته العجيبة. في الفيديو الذائع الذي يوثق استشهاده، يحمله شاب ويجري به نازفا بينما يرفع علامة النصر!

 

لماذا فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم؟ انظر كيف عرّيت المقولات الكبرى عن السلام والتعايش وقبول الآخر؟ البضاعة العالمية التي تبيعها جميع الأنظمة، رخيصة، لشعوبها، كيف يمكنها تبرير قتلك؟ ما الخطر أو الإرهاب الذي قد يمثله شاب بلا ساقين على كيان سفاح كإسرائيل؟ المؤسسات الدولية التي يعمل بها آلاف البشر ويتقاضون الملايين فقط ليستمر الكلام عن السلام العالمي ومكافحة العنف وسائر "البلا بلا".. تلك المؤسسات ومقولاتها لم تمنحك كرسيا كهربائيا ليحمل بعض جروحك. سقطوا جميعا تحت فأسك يا إبراهيم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.