شعار قسم مدونات

لماذا نقرأ؟ مدن الملح كمثال!

Blogs- books

حين تعلّمت القراءة والكتابة في الصّف الأوّل، جذبتني قصّص المكتبة الخضراء، كنت أختبئ في غرفتي وأقرأ قصّص الإوزة البيضاء والأميرة النائمة والجميلة والوحش، أجلس في غرفتي وأنتقل إلى عالمٍ خياليٍّ بعيدٍ عن عالمنا، عشتُ فيه طفولتي القصيرة وتحدثتُ فيه مع أبطالٍ خياليين.

 
كانت القصّة الأولى التّي قرأتها بعدها بسنواتٍ، في الصّف الخامس الابتدائيّ، قصّة توم سوير للكاتب مارك توين، اشتريتها من معرض الكتاب الذّي أقيم مقابل مدرستي الابتدائية عمر بنُ الخطاب، كانت الرّواية الأولى التّي أقتطع ثمنها من مصروفي اليوميّ، لتتوالى بعدها الرّوايات المُكدسة على الرفوف في البيت. تعرّفت على المكتبة العامّة فيما بعد، كانت بيتي الثاني، الملجأ الآمن، المهرب من الشّوارع والضغوطات، تعرّفت من خلالها على بُلدانٍ وحضارات، شعوبٍ وتقاليد وعادات، خبأت الكتب المهمة بين كتبي المدرسيّة، وحين كانت أمي مساءً تغطّ في نومٍ عميق، كنت أضيء النور الباهت بحوار سريري، وأقرأ حتى تخرج أشعّة الشّمس الأولى، أتململُ في فراشي وأخلد للنوم هادئة مطمئنّة.

 
البؤساء؛ كانت الرواية الأولى الحقيقيّة التّي قادتني في عبق التّاريخ صوب العصور المظلمة والثّورة في فرنسا، أحببت جان فالجان كثيرًا، تعلّقت بشخصيتهِ وحياته، كنت أبكي حين لا يجد الطّعام ليتناوله، وحين لا يجد سقفًا يأويه الثّلج وقلبًا يحتضن تعبه، حين يبحث بين الوجوه عن رحمةٍ تحتويه من الأزقّة والتّشرد. قادتني البؤساء إلى الأدب والروايات والقصّص منذ طفولتي المبكرة، بيار روفايل، جبران خليل جبران، مي زيادة، غادّة السّمان، شكسبير، المنفلوطي، فدوى طوقان، ابراهيم طوقان، غسّان كنفاني، محمود درويش، سميح القاسم.. والقائمة طويلةٌ لا تنتهي.

 

 undefined

 
في السّنة الأخيرة بدأت أبحث في أنواع الرّوايات الكتب التّي أقرأها، فوقعت يدي بالصّدفة على مجموعة مدن الملح لعبد الرحمن منيف، من لم يُكمل قراءتها يُفضّل ألّا يكمل قراءة المقال. تبدأ مدن الملح أحداثها في شبه الجزيرة العربيّة منذ أكثر من مائة وخمسين عامًا، قبل النفط والتّطور، أيام البادية.. التيه الجزء الأوّل في الخماسية بدأ مع بداية الاستيطان الأمريكي الأوروبي لشبه الجزيرة العربيّة، تعيش فيه ملحمةً حقيقية، تبحث عن الحقائق، الأشخاص، النفس البشريّة، طبيعة الصّحراء والبادية، القرب من الدين، الابتعاد عن الدنيا، الإيمان المُطلق، البساطة.. ثمّ فجأة يظهر الذهب الأسود ليغري فئةً قليلة والفئة الكبيرة مُغيّبة تمامًا عمّا يحدث!

 
في الجزء الثّاني الأخدود، يبدأ عبد الرحمن منيف بأخذنا في رحلةٍ حقيقيّة إلى قلوب السلاطين وقصورهم ونسائهم ورغباتهم وحياتهم، ولكن تظلّ الحصّة الأكبر من نصيب البسطاء الذّين يبحثون عن لُقمة العيش، يركضون خلفها ولا يصلونها! في الجزء الثالث تقاسيم الليل والنّهار، يعود عبد الرحمن منيف إلى ما قبل الاكتشاف الذّي غيّر العالم، إلى زمن سُلطانٍ ستكتشف في نهاية الرّواية أنه كان الأفضل بينهم جميعًا، الحروب التّي خاضها، اهتماماته، الحقبة التاريخيّة وأهميتها في تطوّر شبه الجزيرة.. بعد وفاته في نهاية الجزء يحدث ما لم يكن متوقعًا! يبدأ الجزء الرابع المنبت مع زمنٍ جديد وحاكمٍ جديد، يغدق في العطاء لشعبه، يعطي من يشاء ويحرم من يشاء، تتغيّر البادية.. تنقلب فجأةً إلى مدنٍ من رخام، يملأها العمران، الرفاهية، البذخ، التخلّي عن الكثير من التقاليد، كلها وأكثر من ذلك من أحداثٍ في قلب القصورِ والنفوس في العائلة الحاكمة!

 
في الجزء الخامس بادية الظّلمات، تقرأ الأحداث الأكثر تشويقًا، الأكثر جمالًا، الأكثر قربًا وتكشفًا، تعيش فيه كافّة المشاعر الإنسانيّة، الحبّ والكره، الشفقة والبطش، الحقد والودّ، الغنى والفقر، الحرب والسلام، الاستسلام والمقاومة، الرغبة وعدمها، مع نهاية الخماسية ستظلّ صامتًا فترةً من الزمن، لن تستطيع البدء بكتابٍ آخر، ستفكّر بفنر وخزعل والملك خريبط بالحكيم المحملجي وابنه غزوان، فضّة وابنها راكان، الدواحس، العوالي، حرّان، موران، القصور المُشيدة الأحداث الحقيقيّة الآسرة!

 

لهذا نحن نقرأ، لنكتشف التاريخ، لنتخلى عن عاداتٍ اندثرت، لنجد أنفسنا، لنعرف تاريخنا، لنحبّ الأرض والوطن، لنتأمل تدبير الخالق، لنجيد الكتابة، لنحترف اللّغة، لنسبر أسرار العالم، لنسجل على جانبٍ من التّاريخ، نحنُ مرّرنا من هنا!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.