شعار قسم مدونات

حقيقة النور المحمدي

مدونات - المدينة المنورة المسجد النبوي

إن الحق عز وجل جعل الطريق إليه مبتدؤها ومرجعها الحب، حب يدركه الراسخون في العلم والمعرفة بحقائق الدين ورقائق الإحسان. وما كان لهذا الحب أن يشرق نوره على قلوبهم إلا حين خضعت لذلك التحول الذي يرتقي بالنفس ويروضها حتى تتسم بصفات النفس السماوية الخاضعة لهيبة ذي الجلال المشرئبة لواردات الجمال.

 
والحق عز وجل إذ يعلي قدر صلة الحب فهو بذلك عز وجل يجعل عطائه في الحب أجزل وأعظم من عطائه في العمل، قال مولانا رسول الله صل الله عليه وسلم "المرء مع من أحب" ـوإن لم يعمل بعمله- فإذا تقرر واستقر في قلب العبد أن السلوك إلى الله هو اقتداء واهتداء، فإن الحب حامل ذلك كله بل هو من مآلاته، قال مولانا رسول الله صل عليه وسلم لعمر الفاروق رضي الله عنه حين قال له: "والله يا رسول لأنت أحب إلي من مالي وولدي ووالدي والناس أجمعين، فقال له: لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك فقال عمر: الآن يا رسول لأنت أحب إلي من نفسي فقال: الآن يا عمر" الآن وليس قبل.

 
إن طريق معرفة الله عز وجل وباب السلوك إليه مسدود على السالك ما لم يتمثل الحب الكامل والشغف القلبي بالحبيب المحبوب صل الله عليه وسلم، فحب النبي الكريم والفناء في محبته هو من محبة الله لا تمايز بينهما ولا انفصال، قال صل الله عليه وسلم "أحبوني بحب الله لي" وقال في رواية البخاري رضي الله عنه "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما.." فلزم من الاقتران والجمع بين الله عز وجل ونبيه الكريم في ضمير متصل واحد أن حب النبي صل الله عليه وسلم من كمال حب الله، وعلى هذه المحجة اللاحبة والمنهاج البين سار الأصحاب وصالحوا هذه الأمة رضي الله عنهم أجمعين، فجعلوا محبته صل الله عليه وسلم وإجلاله وتوقيره وتعظيم شأنه دينا ارتضاه الله لهم وشرعا دانوا به له سبحانه وتعالى.

 
يقول ابن تيمية رضي الله عنه : "إن قيام المدح والثناء عليه صل الله عليه وسلم والتعظيم والتوقير له، قيام الدين كله وسقوط ذلك سقوط الدين كله"، نظروا رضي الله عنهم إلى قوله تعالى: "قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ" فعلموا أن اقتران حب الله عز وجل بحب نبيه الكريم صل الله عليه وسلم ثمرته الجهاد في سبيله فمناط الحب التوفيق لحسن الاقتداء والاهتداء، فمن لم يأت بالحب لم يوفق للاتباع.

 

undefined

 

فآثروا مراده صل الله عليه وسلم على أهوائهم ومرادات أنفسهم، لأنه أحب إليهم من أنفسهم، فكان الاتباع و الاقتداء منهم برهان المحبة، امتلئوا بحبه صل الله عليه وسلم فأورثهم ذلك إيمانا لامس شغاف قلوبهم، قال مولانا رسول الله صل الله عليه وسلم "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به" حسن صحيح عند النووي عرفوا رضي الله عنهم حقيقته السنية النورانية فلزموا حقه، عرفوا أنه البرزخ الوسط بين الحق والخلق، سيد خلق الله حبيب الله، أكمل خلق الله، المصطفى من رسل الله، الدال على الله الداعي إلى الله، المخبر عن الله، وعين رحمته إلى العالمين، الآخذ من الله إلى الخلق، قال صل الله عليه وسلم "إنما الله المعطي وأنا القاسم" رواه البخاري. هو باب الكل إلى حضرة الكريم الوهاب ووسيلتهم إليه، هو المصحوب في الطريق إلى الله، من اتصل به اتصل ومن انفصل عنه انفصل. ولنا في الصحب الكرام رضوان الله عليهم الإسوة الحسنة، فقد بلغوا رضي الله عنهم المنتهى في إعظامه وإكباره، وإعظام جميع أسبابه، وإكرام مشاهد وأماكنه ومحبوباته، وما لمس بيده، وبره آله وذريته وأمهات المؤمنين أزواجه عليهن السلام.

 
فقد بذلوا أرواحهم وأموالهم وأهليهم محبة ونصرة وفداء له صل الله عليه وسلم، سلتوا عرقه وجعلوه طيبا، وكادوا يقتتلون على فَضلة وضوئه ابتدروا نخامته صل الله عليه وسلم ودلكوا بها أجسادهم تبركا واستشفاء، فهذا عروة بن مسعود وهو الكافر قبل إسلامه يصف لقريش هذه الصورة المشرقة من حب الأصحاب للنبي صل الله عليه وسلم وتعظيمه له، فيقول: "والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله ما رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا، والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف أحدهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وَضُوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده وما يحدون النظر إليه تعظيما له" هذه المعاملة هي المنهاج الواضح الذي على كل مؤمن أن يسلكه في معاملة مقام النبوة الباقية في الأمة، قال تعالى "وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ".

 
قال الإمام سيدي أحمد الرفاعي رضي الله عنه: "أي سادة: اعلموا أن نبوة نبينا صل الله عليه وسلم باقية بعد وفاته، كبقائها حال حياته، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها" وقال آخر: "اعلم أن محبة النبي صل الله عليه وسلم هي المنزلة التي يتنافس فيها المتنافسون، وإليها يشخص العاملون، وعليها يتفانى المحبون، وبروح نسيمها يتنسم العابدون، فهي قوت القلوب، وغذاء الأرواح، وقرة العين، وهي الحياة التي من حرمها فهو في جملة الأموات والنور الذي من فقده فهو في بحار الظلمات، وهي روح الإيمان والأعمال والأحوال والمقامات" وذلك ما نرجو الكريم الوهاب أن يمن علينا بتحصيله في هذه السلسلة النورانية الهادفة إلى الإحاطة به صل الله عليه وسلم علما وعملا وحالا، آمين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.