شعار قسم مدونات

التمايز الثقافي والمشترك الإنساني

blogs العولمة

مما لا شك فيه، تحتل تكنولوجيا الاتصال مركز الريادة في تسهيل عملية دمج العالم والتسريع بوثيرته. فبسببها تأثرت الأمم سلبا أو إيجابا بما يجري من تطورات وأحداث عالمية، مما جعل تلك الأمم أكثر وعيا بقدرتها على التأثير في مجرياته وتداعياته. فبفضل هذه الوسائل انكمش العالم وانمحت الفواصل بين المحلي والعالمي. لكن، أيضا بسببها ازداد اتساع الفجوة ما بين الفقراء والأغنياء وهيمنت ثقافة الاستهلاك والدعايات الإعلانية.

سنقسم هذا المقال إلى شقين. الأول سنقوم فيه بجولة في رحاب أفكار باحثين وكتاب تفاعلوا بالسلب مع ظاهرة العولمة وتداعياتها لعرض تصوراتهم تجاهها. أما الثاني فسنعرض فيه أفكارا ومواقف تفاعلت بالإيجاب مع العولمة، متناولين بالتحليل كل تلك التصورات (السلبية والإيجابية)، وتاركين للقارئ (ة) حرية اتخاذ الموقف الذي يقتنع به.

فموضوع العولمة، وإن استهلك بما يكفي، إلا أنه يبقى، كما يرى الباحث الإماراتي عبد الخالق عبد الله، إطارا مرجعيا لكل مشتغل في الحقول الاجتماعية والإنسانية (1). لما للعولمة من تأثير قوي في مجريات حياتنا المعاصرة الآنية والمستقبلية.

استطاع الغرب بقيادة أمريكية، بعد سقوط جدار برلين وانهيار الأنظمة التوليتارية، خلق نظام اقتصادي معولم، أراد له أن يكون قويا ومتماسكا، لضمان اقتصاد عالمي متحكم فيه
استطاع الغرب بقيادة أمريكية، بعد سقوط جدار برلين وانهيار الأنظمة التوليتارية، خلق نظام اقتصادي معولم، أراد له أن يكون قويا ومتماسكا، لضمان اقتصاد عالمي متحكم فيه

وسائل الاتصال الحديثة والوجه الجبري للعولمة

يتفق جميع الكتاب، الذين سنقوم بعرض مواقفهم في هذا الشق الأول من المقال، على فكرة واحدة، وهي أن ظاهرة العولمة باتت شرا لا بد منه. ذلك أنه، نظرا للتطور المهول الذي تشهده وسائل الاتصال الحديثة، أصبح من المستحيل، في نظرهم، التحكم في تدفق المعلومات المنسابة من شبكات التواصل الاجتماعي، بشكل جعل التعولم يمس جميع مناحي الحياة الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية ويكرس، بفعل ذلك، واقعا جبريا لا مفر منه.

من هؤلاء الكتاب نجد المؤرخ الكندي ل. س. ستافريانوس، الذي يرى أنه، بانتهاج لأسلوب تفكيكي للحضارات والثقافات التي كانت تحظى بعمق تاريخي، عبر التنظير لأسطورة نهاية الإيديولوجيات الكبرى وافتعال لفكرة صدام الحضارات، استطاع الغرب السيطرة على بقية العالم. وبسبب هذا الإجراء التفكيكي اختل ميزان القوى بين دول الشمال ودول الجنوب، وازداد حدة بعد اندلاع الثورة الصناعية الثالثة (2)، التي لعبت فيها الشركات متعددة الجنسيات دور الناقل للتقنيات الجديدة في الزراعة والصناعة من العالم الأول إلى العالم الثالث.

وقد تولدت عن هذه الثورة، حسب هذا الكاتب، ثورة خضراء جعلت المؤسسات الزراعية تحل محلل الزراعة التقليدية العائلية وتنتج نوعا جديدا من زراعة تستفيد من التقنيات الحديثة، لينتشر بسرعة نظام جديد لإنتاج الغذاء إلى ما وراء البحار، حيث تنافس فيه المتنافسون للفوز بالسباق العالمي القائم بين إنتاج الغذاء ونمو السكان. انعكست تداعيات انتشار الثورة الزراعية سلبا على وضعية صغار الفلاحين، بخلقها لظروف مناقضة في الريف تجلت هذه الأخيرة في استفادة كبار الفلاحين وحدهم من الإصلاح الزراعي، نظرا لقدرتهم على تحمل نفقات التقنية الزراعية الجديدة.

وظيفة وسائل الاتصال الحديثة كان ظاهرها صناعة الرأي العام، وباطنها كان إنتاج خطابات تحريضية لتأجيج مشاعر الناس قصد اتخاذ مواقف معادية للثقافات غير الغربية

ودائما من منظور الكاتب ستافريانوس، ترتب عن هذا الوضع، تشكيل طبقة كبيرة من الفلاحين الصغار الذين أجبروا على النزوح إلى المدن الكبرى للعيش في هوامشها. فبدلا أن تكون هذه الثورة الخضراء نعمة على الجميع، أصبحت نقمة وسببا في تفاقم التفاوت الاقتصادي والتوترات الاجتماعية ونتاجا لسيادة العنف والإرهاب ومقدمة لثورات حمراء أتت على الأخضر واليابس (3).

استطاع الغرب بقيادة أمريكية، إذن، بعد سقوط جدار برلين وانهيار الأنظمة التوليتارية، خلق نظام اقتصادي معولم، أراد له أن يكون قويا ومتماسكا، لضمان اقتصاد عالمي متحكم فيه، منتج للسلع والخدمات وموفر لأسواق كبرى تباع فيها تلك السلع. وقد طور لأجل تحقيق هذه الغاية، حسب الباحث الامريكي في علم السياسة جورج فريدمان، نظامه العسكري حتى يبقي الطرق البحرية مفتوحة ويحفظ النظام في المناطق التي تعرف توترا، لتسهيل رواج السلع بكل حرية (4). وقد وفق الغرب في هذه المهمة لانسجام اقتصاده المعولم مع صناعة جيل جديد من وسائل الاتصال الحديثة لعب فيها الإعلام الرقمي دورا كبيرا.

العولمة والوظيفة المزدوجة لوسائل الاتصال الحديثة

ولفهم هذا التطور الكبير الحاصل في مجال تكنولوجيا الاتصال والإعلام، يشرح لنا الفيلسوف الهندي أمارتيا سن الوظيفة الجديدة التي بدأت تضطلع بها هاته الوسائل. وظيفة كان ظاهرها صناعة الرأي العام، وباطنها كان إنتاج خطابات تحريضية لتأجيج مشاعر الناس قصد اتخاذ مواقف معادية للثقافات غير الغربية.

هذا التوظيف الإيديولوجي لتلك الوسائل ساعد، في نظر أمارتيا سن، على ظهور تنظيمات متطرفة تتبني معتقدات تدعو إلى التطرف والانقسام والتشتت وتنهج أسلوب العنف (5)، لقد ساعدت وسائل الاتصال الحديثة الغرب، حسب الباحث الأمريكي جورج فريدمان، على تركيب صورة كرستها بقوة في أذهان الناس، مفادها أن التطرف أصبح يشكل تهديدا فريدا من نوعه، باتخاذه شكل إرهاب يعتمد العنف الدموي لتحقيق مأربه السياسي (6). فبإعلان الحرب على ما سمي إرهابا، اعتبر الغرب تلك التنظيمات المتطرفة التهديد الوحيد الذي تعدى كل التهديدات الأخرى، الأمر الذي جعل حماية نفسه منها دافعا أساسيا لاستراتيجياته العسكرية التي كلفته توفير موارد هائلة للقضاء عليه.

إن ما رسخته وسائل الاتصال الحديثة في الأذهان من تصورات عن الإرهاب والعنف، يقول فريدمان، يكشف الوجه السيئ للعولمة. فما يشاهد صباح مساء على القنوات التلفزية وشبكات التواصل الاجتماعي من اندلاع نيران مشتعلة هنا وهناك لحروب أهلية وطائفية وعرقية، ومن تزايد مهول في نسب العطالة وتسريح العمال وهجوم مدروس ومخطط له على الطبقات المتوسطة وتراجع مهول لدور الدولة، ينم عن هذا الدور الخطير المتصاعد لوسائل الإعلام الحديثة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
(1) مقال: العولمة: جذورها وفروعها وكيفية التعامل معها – د . عبد الخالق عبد الله – مجلة عالم الفكر المجلد الثامن والعشرون – العدد الثاني – أكتوبر / ديسمبر 1999 م – المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب – دولة الكويت – ص 39. 
(2) كتاب التصدع العالمي. العالم الثالث يشب عن الطوق الطبعة الأولى. ل. س. ستافريانوس ترجمة عن الإنجليزية موسى الزعبي وعبد الكريم محفوظ المجلد الثاني. ص 501

(3) نفس المرجع السابق. ص 503 
(4) كتاب: الامبراطورية والجمهورية في عالم متغير جورج فريدمان. ترجمة أحمد محمود. الدار المصرية اللبنانية 2016. الطبعة الأولى. ص 45 
(5) كتاب السلام والمجتمع الديمقراطي تحرير وتقديم أمارتيا سن ترجمة روز شوملي مصلح مراجعة غيث الضيقة. المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. الطبعة الأولى شباط / فبراير 2016. ص – ص 121 – 122 
(6) كتاب: الامبراطورية والجمهورية في عالم متغير جورج فريدمان. ترجمة أحمد محمود. الدار المصرية اللبنانية 2016. الطبعة الأولى . ص 108

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.