شعار قسم مدونات

حماس والمعجم الفلسطيني

مدونات - حماس

في العام 1928 ظهرت نظرية اشتهرت فيما بعد باسم نظرية النسبية اللغوية، أو نظرية سابير-وورف، على اسم الأميركي بنجامين وورف وأستاذه في جامعة ييل إدوارد سابير، وهما عالمان جمعا بين علوم اللسانيات وفلسفة اللغة والاجتماع. تقول النظرية أن اللغة تشكّل وعي ورؤية المجتمع الذي يتكلمها وتنظم تجربته، فالناس تتحدد أفكارهم بناءً على مساحات ومقولات توفرها لهم لغتهم التي يتحدثونها، لذلك كان الارتباط بين من أراد فرض رؤيته وفرض لغته ومصطلحاته على غيره وثيقاً.

 
وفي حالة قضيتنا الفلسطينية، شكّل التنوّع الإثنيّ في المجتمع "الإسرائيلي" عاملَ قوةٍ وتفوّق في إيصال فكرة دولتهم -على رداءتها- إلى العالم، وتصدير بعض المصطلحات لتعزيز أفكار تمهّد لفعلٍ سياسيّ على الأرض، كمثل مصطلحات المحرقة ومعاداة الساميّة، والتي غرست في وعي الكثيرين فكرة مظلوميّة اليهود وأحقيتهم بالخلاص من البؤس الذي لاحقهم سنين طوال. ومع أنّ المجتمع الفلسطيني لم يمتلك العديد من عوامل القوة في هذا المضمار في صراعه مع الاحتلال -خصوصاً في بدايات الأمر- إلا أنّ وعيهُ الجمعيّ حمل دوماً فكرة التحرير واسترداد الأرض والمقدسات أينما حلّ وارتحل، وحاول دوماً إيصال صوته للعالم.

 
وشكلت حالة المقاومة المستمرة رافعةً لإحياء مصطلحات ارتبطت في وعي المجتمعات بنضال الشعب الفلسطيني، كمصطلحات الفدائي، والإضراب، والانتفاضة، حتى أن كلمة انتفاضة أصبحت كلمة إنجليزية (INTIFADA) بعد الانتفاضة الأولى عام 1987، العام الذي حمل انطلاقة حركة حماس والتي ساهمت بدورها أيضاً بتعزيز المعجم اللغوي الفلسطيني وقلقلة بعض المصطلحات ذات المعنى الطبيعي لتصبح ذات مدلولات كبيرة، ولتساهم في إيصال الصوت الفلسطيني للعالم على تنوعه.
   
undefined
 
ثلاثون عاماً مرّت على انطلاقة حركة حماس خاضت فيها وما تزال تجربةً غنية أثْرَتْ النضال الفلسطيني ومسيرته المتراكمة، وأعادت للقضية الفلسطينية بُعدها الإسلامي الذي كان غائباً لحين لعوامل عدّة، فكان إحياء مصطلح الجهاد لتحرير الأرض، وكان قيام كتائب القسام بتذييل جميع بياناتها بـ (وإنه لجهاد، نصرٌ أو استشهاد) يخبر بأنهم قوم يدركون النهاية ويصبون لها، وليسوا مجرد حالة عابرة أو هبة انفعالية، وبدأ مصطلح الاستشهادي يتردد في أسماع الناس، وأنه إنسان ترك الدنيا وراءه وحمل روحه على كفه لغايةٍ أرقى وليمثل التضحية بأبهى صورها ولتحيا الأمة من بعده بكرامة، وتغيَرت نظرة الناس للثام الوجه، من علامة للصوص والمجرمين، إلى رمز فخار ورتبة عسكرية، وأصبح المطارد رمزاً يرفعُ الهمم ويلهم الشباب، وتناسبت صناعة عيّاش لعبواته الناسفة طرديّاً مع صناعة الحلويات التي ستوزع بعد الانفجار، وأمست كلمة "عميل" أعظم سُبّة وموبقة من الموبقات، وتعززت فكرة تجريم التطبيع ونبذ كافة أشكاله.
 
لم تأخذ كل هذه المصطلحات صداها في نفوس الشعب إلا لأنه كان شاهداً على المسيرة برمتها، فعندما شهد الشعب على صمود الرنتيسي وإخوانه المبعدين في مرج الزهور، أصغى له حينما قال له رافعاً البندقية (هذا هو الطريق)، وعندما سمع "احنا بدنا ولادنا يروحوا" من الشيخ أحمد ياسين الذي خرج لتوّه من السجن حينها، لم يشكل الأسر رادعاً له عن المقاومة. لقد شهد الشعب على ثلة شباب يسيرون بأكفانهم في أزقة مخيمات غزة يتحزمون أحزمة بلاستيكية لعلها توصل رسالة إلى دوريات الاحتلال..

 

رسّخت حماس وفصائل المقاومة في وعي الشعب أن المقاومة خيار استراتيجيّ، وليس بحثاً عن موتٍ نبيلٍ وتجميلٍ لانتحار، وأنه لا بد للحق من قوةِ تحميه
رسّخت حماس وفصائل المقاومة في وعي الشعب أن المقاومة خيار استراتيجيّ، وليس بحثاً عن موتٍ نبيلٍ وتجميلٍ لانتحار، وأنه لا بد للحق من قوةِ تحميه
 

شهد عليهم وما في أيديهم إلا الحجر، وشهد عليهم عندما أطلقوا ثورة السكاكين، وشهد عليهم حينما امتلكوا قطعة سلاح واحدة عمرها من عمر الحرب العالمية الثانية، قاوموا بها وحدها بالضفة وغزة، وشهد على أولى اشتباكاتهم وعبواتهم وأحزمتهم حتى أصبحت كلمة ناسف مدعاة للبهجة، وأولى صواريخهم ذات الدخان اللولبي حتى أصبح صوت انطلاقها كتكبيرات العيد، وأولى خنساواتهم، وأولى أنفاقهم، وأولى صفقات تبادلهم، وأولى عملياتهم البحرية، وأولى قناصاتهم وطائراتهم. فعندما قالوا: أن لمسافة الصفر قيمة، وأن المستوطن مغتصب، وأن الخط الفاصل خط زائل، وأن تل أبيب هي تل الربيع، وأن إيلات هي أم الرشراش، وأن لا اعتراف بـ "إسرائيل"، وأن المقاوم مهما اختلف انتماؤه حبيبٌ للشعب، أصغى الناس.

 
رسّخت حماس وفصائل المقاومة في وعي الشعب أن المقاومة خيار استراتيجيّ، وليس بحثاً عن موتٍ نبيلٍ وتجميلٍ لانتحار، وأنه لا بد للحق من قوةِ تحميه، وأن الحق فوق السلام والعيش، وأن الدم وقودٌ لا دموع، وأن الطريق طويلٌ لا رجوع فيه وصعبٌ لا مجال فيه للانكسار.

 
قد تكون المرحلة الراهنة من أقسى المراحل التي تمرّ بها القضية الفلسطينية، فمحاولات التصفية الشاملة واستغلال اللحظة الفارقة المتمثلة في تشتت الأمة وضعفها تسير على قدم وساق، وما كانت الكلمات أعلاه محاولة بثّ تفاؤلٍ مغفل يمحو سوء الواقع، إنما إشارة إلى أنّ هذا مما يُبنى عليه، حتى يرحل ابن اليهودية..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.