شعار قسم مدونات

المسلمون في أوروبا تحت المجهر

مدونات - مسلمون في فرنسا

صدرت مؤخراً عن مركز (Pew Research Center) دراسة تتحدث عن توقعات أعداد المسلمين في أوروبا لعام 2050. وتشير هذه التوقعات إلى ازدياد ملحوظ لنسبة المسلمين في البلدان الأوروبية. فالنسبة الحالية في أوروبا للمسلمين هي ما يقارب الخمسة بالمائة بينما التوقعات لعام 2050 تقول بأنها ستتراوح بين 7.4 و14.0 بالمائة، وتفاوت هذه النسبة بشكل كبير يعود لاعتمادها على عامل الهجرة واللجوء المتغير فمثلا في حالة عدم وجود أي هجرة أو لجوء متدفقة نحو أوروبا فإن النسبة المتوقعة هي 7.4 بالمائة.

 
وهذه الدراسة ودراسات أخرى تهتم بالمسلمين وتبحث في قضايا تتعلق بهم، ازدادت كثيراً في السنوات الأخيرة من قبل الباحثين ومراكز الدراسات. ولا شك أن جهات عديدة تستطيع الاستفادة من مخرجات عمليات البحث والدراسة هذه، فمثلاً يمكن لصانع القرار الأوروبي الاستفادة منها في التحليل والتخطيط لمستقبل البلاد، كما أن أحزاب وحركات اليمين المتطرف قد تستغل أجزاء من هذه الدراسات للتهويل والتحذير من خطر الإسلام والمسلمين على مستقبل القارة العجوز.

 
وفي المقابل فإنه من المفترض أن تفتح هذه الدراسة وغيرها من الدراسات شهية أصحاب العلاقة من المؤسسات الإسلامية لدراسة وبحث واقع ومستقبل المسلمين في أوروبا، والعمل على وضع معالم رؤية واستراتيجية واضحة ترسم مستقبل مستقر للأقلية المسلمة في هذه البلاد مبنية على أسس علمية وموضوعية، وذلك بعيداً عن العواطف ومشاعر الابتهاج من أن تضاعف أعداد المسلمين دليل على أن الإسلام سيعود قوياً من هذه البلاد وأنها مؤشرات تدلّ على أن الأمور ولله الحمد تسير على ما يرام.

 
ومن الملاحظات الهامة التي ينبغي تدارسها وتأملها من أجل رؤية تحقق الاستقرار لمسلمي أوروبا:
أولاً: إدراك لغة العصر ومفردات موازين القوى فيه والتي تختلف جذرياً عن العصور السابقة، فلم تعد الغلبة هي بكثرة العدد وإنما هي بالكفاءة وحسن التخطيط الذي يقوم على الدراسة والبحث وفهم الواقع ، كما أن الغلبة والنجاح هي في القدرة على بناء الشراكات وجسور التعاون مع مكونات المجتمع الأخرى وإدراك أن المسلمين هم جزء من هذه المجتمعات الأوربية.

  undefined

ثانيا: العديد من الدول الأوربية تطلق على مجتمعاتها أنها مجتمعات متعددة الثقافات، وهناك محاولات عديدة من جهات ومؤسسات وباحثين يحملون نموذج آخر وهو ذوبان الثقافات الأخرى القادمة من خارج أوروبا داخل ثقافة المجتمع "الأم"، هذا التصور ينسجم مع تطلعات وأجندات اليمين المتطرف الذي ينادي بهذا النموذج في شعاراته وبرامجه الحزبية، هذا النموذج الأحادي الثقافة قد يهدد التعايش مع الثقافات الأخرى فلذلك من الأهمية العمل على تعزيز ودعم نموذج المجتمع المتعدد الثقافات من خلال العمل والدراسات والحراك والتفاعل في فضاء المجتمع العام، فالحياة هي عبارة عن تدافع أفكار وبرامج ومشاريع، ولن ينجح البرنامج أو الفكرة إن لم تكن فعالة ولن تكون فعالة بدون أن تتفاعل مع محيط المجتمع الواسع.

 
ثالثاً: مفهوم حارة المسلمين بشكل مشابه لحارة اليهود من أجل المحافظة على الشخصية والهوية الإسلامية والذي ينادي به البعض، قد لا يكون هو النموذج المناسب للاتجاه نحوه وترسيخه، فالتجارب التي نراها في هذا العصر وفي ظل منظومة الدولة الحديثة المدنية والتي يعتمد تطورها على التفاعل والاحتكاك والعلاقات على كل المستويات، بدءا بمجلس يجمع أهل الحي لتحسين الخدمات في الحي انتهاء بمجلس البرلمان الذي يجمع ممثلي البلد، وبين هذين المجلسين هناك عشرات بل وربما مئات المجالس التي تساهم في الحراك والتنمية. وعليه فالتفاعل مع المحيط المتنوع في نموذج حارة المسلمين سيكون ضعيفاً ويعمق قضية الانعزال السلبي، الذي قد تكون له تداعيات خطيرة على المجموعات البشرية والمجتمع بشكل عام. ومما يعزز فشل هذا النموذج، أن المشاهدات والتجارب لواقع العديد من هذه الحارات في أوروبا تشير إلى أنها أصبحت تجمعات للعاطلين عن العمل وأرضاً خصبة للتطرف والجريمة.

 
لا شك أن هجرة المسلمين إلى أوروبا لم يتم التخطيط لها من قبل دول أو مؤسسات وإنما جاءت بشكل عفوي ومعظمها نتيجة لحروب وكوارث حصلت في العديد من البلدان الإسلامية، ولكن هذا لا يمنع أن يخطط المسلمون في أوروبا الآن لمستقبلهم ومستقبل المجتمعات التي يعيشون فيها سوياً مع الآخرين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.