شعار قسم مدونات

الدين والحقيقة

مدونات - مسلمون

الثقافة والعرف الخاطئ، والتفريط في الدين والتعالي على شعائره يسيران الآن جنباً إلى جنب في أوساطنا، وبخاصة بين الشباب، بحيث أصبح المظهر الوحيد والعامل الأهم في احتساب الشخص ضمن العصريين، وانتظامه في سلك المثقفين الراقين في أن يكون بينه وبين الدين خصومة مستمرة وحرب مستعرة، لا تهدأ نارها، ولا يخبو لهبها. خصومة تظهر آثارها في إهداره شعائر الدين، وتفريطه الكلي في تكاليفه، وإضاعة فرائضه بحيث لو رؤي في مسجد، أو ضبط وهو يغشى المجالس العلمية، كان ذلك إيذاناً بانفصاله عن صفوف إخوانه، وإعلانه بأنه أصبح رجعيًا من أنصار التقاليد القديمة الذين يفكرون بعقلية القرون البائدة، ويعيشون في أحلامها التي انغمر ناس فيها قبل انبثاق فجر الحرية، وسطوع شمس النور والعرفان.. وإن يقولون إلا كذباً.

 
وناهيك بما يُقابل به من سخرية، ويُغمز به من تقريع وتأنيب، سيل جارف من الإيذاء لا تهدأ هجمته، ولا تخف وطأته إلا بالتراجع عما ذهب إليه، والنكوص سريعاً على عقبيه، أو أن تتهيأ له ظروف مواتية، ونفسية قوية تلقم هؤلاء السفهاء حجارة تسكتهم وتجبرهم على اختزان ألسنتهم في أفواههم، وابتلاع سفاهتهم في أجوافهم، وإن كان هذا الأخير نادراً وقليلاً. إلى متى نناقش هذا الخطأ ونحاول إماطة اللئام عن قبحه، وحسبنا فيه أنه مناقضة صريحة لا لبس فيها ولا خفاء، لما يتظاهر به هؤلاء الحمقى المغرورون من الانتساب إلى الإسلام، والتزين بزي أهله، وإعلان السخط والنقمة على من يسلخهم منه ويخرجهم من دائرة معتنقيه! حسبنا فيه هذا وستأتي الأيام تكشف في وضوح عن سخف الضلال الذي نعيش فيه، وتردنا رغماً إلى المبادئ القويمة، عندما تصدمنا حوادث الأيام، وتصفعنا عواقب الرذيلة بيدها الطائشة الجبارة، وها هي قد بدأت تصفع! 

 
وننظر إلى الموضوع من ناحية أخرى، ونعمل على تحديد المسئولية في هذه الحالة البئيسة، لنوجه اللوم ونلقي التبعة على من غرسوا بذرة هذا الفساد، وأشرفوا على تنميتها بقصد أو بحسن نية، ولا نقطع الأمل من بلوغ صوتنا إلى آذان تتغلب صولة الحق على نفوس أصحابها فيشفعون على أنفسهم من تحمل التبعة بعد استبانة نهج الصواب ووضوح الأمر.
 

وإليكم حقائق..

ليس بغريب أن نرى الإسلام وهو الحكيم في تشريعاته، البعيد النظر في تقرير مبادئه وتعليماته يلقي التبعة على كاهل الوالدين ويحملهما المسئولية، ويكلفهما بتوفير الجو الصالح عند بناء بيتهما، تكوينها بحسن الاختيار لمن ستشاركه حياته، وتساهم في تشييد صرح المبادئ والقيم العائلية، ثم يعهد إليه حين يصير زوجاً بالرعاية الطبية لنفسه وشريكته، وأخذ نفسه وإياها بالفضائل النفسية، والكمالات الدينية، فإذا ما تم تشييد هذا الصرح والتأم الشمل كانا مكلفين برفع لواء الفضيلة والقيم، والأخذ على الكل بالتقيد بالمبادئ والرضوخ لأوامر الله عز وجل.. فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-:"ما نحل والد ولدا من نحل أي أعطاه ووهبه أفضل من أدب حسن".

 

التربية الدينية والثقافة تكون للطفل درعاً يقيه في المستقبل الانحدار في هاوية الرذائل، وأداة تحفظ عليه كيانه المعنوي، وتصون ما بينه وبين ربه من علاقة تتوقف عليها سعادته
التربية الدينية والثقافة تكون للطفل درعاً يقيه في المستقبل الانحدار في هاوية الرذائل، وأداة تحفظ عليه كيانه المعنوي، وتصون ما بينه وبين ربه من علاقة تتوقف عليها سعادته
  

ولما كانت هذه الدعوة ينصاع إليها ويعرف قيمتها من توفرت عنده الرغبة الكافية في الخير والتشوف إلى ما عند الله من المثوبة، بخلاف غيره ممن لا تكفي في جذبه المرغبات، لوّن الله تعالى الدعوة بلون آخر ممزوج بنوع من الترهيب وذلك في قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ".. وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله سائل كل راع عما استرعاه.. حفظ أم ضيع حتى يسأل الرجل عن أهل بيته". وتلك صراحة ليس وراءها من شيء من اللبس تحمل الأهل مسئولية عظمى فيمن حولهم، وتوقف موقف المناقشة أمام الله تعالى.
 

كلمة لا بد منها

إن كل ما تنصرف إليه همم الآباء من الجمهرة الساحقة من المسلمين وما يفهمونه من واجب نحو أبنائهم لا يكاد يعدو تهيئة الوسائل التي توفر لهم متعة الحياة، وتمكنهم من إدراك مآربهم الجسمية فقط، فإن ربوا فتربية صناعية، وإن ثقفوا فثقافة دنيوية، لا تفترق عن الصناعية البحتة إلا في الاسم والمظهر، إذ هي لا تتجه إلا إلى إعداد الشخص إعداداً آلياً أو فنياً يؤهله للقيام بعمل يدر عليه اخلاف الرزق، ويملأ جيوبه بالنقود، أما التربية الدينية والثقافة التي تكون للطفل درعاً يقيه في المستقبل الانحدار في هاوية الرذائل، وأداة تحفظ عليه كيانه المعنوي، وتصون ما بينه وبين ربه من علاقة تتوقف عليها سعادته بعد الحياة، أما هذا كله فلا يخطر لأحد منهم على بال.

 
وذلك هو سر ما نراه في الشباب الذين ربوا تربية خالية من روح الدين في مبدئهم، فتراهم إذا ألقيت إليهم بعض العقائد الفاسدة، وزينت أمام أعينهم بعض النزعات الإلحادية، لا تلبث أن تجد مرعى خصباً من نفوسهم تنمو فيه وتقوى حتى تملك عليهم مشاعرهم، وتستأثر بألبابهم، فينقادوا إليها بكلهم، ويصبحوا حرباً على دينهم بل إنهم ليكونون أشد في الهدم، وأحرص على التخريب ممن لم يمت إليهما بصلة ما، وذلك نتائج تفريط الآباء في واجبهم الذي قلدهم الله إياه، ولسوف يحاسبهم حسابهم عسيراً.

 
ثم فكرة خاطئة شاعت وذاعت وتملكت أذهان الكثيرين، يوحي فيها الشيطان الرجيم إلى أوليائه أن قيام الأطفال بواجبات الدين من صلاة وصيام وما إلى ذلك لا يتفق مع المصلحة، بل يتضارب مع المصالح الدنيوية والقيام بها كما ينبغي، ولعل هذه الفكرة المشوهة هي العامل الوحيد، والسبب الأهم في ذلك الذي نتحدث عنه من إهدار التوجيه الديني للنشء عن عمد وإصرار، وهي فكرة لست أدري من أين استُمدت وعلى أي أساس قامت؟!! وإن كنت لا أرى لها أساساً إلى الجهل وخطل الرأي، والغرور بالحياة ونسيان الله والدار الآخرة.

 
إن الدين لم يكن في يوم من الأيام ديناً روحياً فحسب! وكيف تلصق به هذه الفرية أو يصدق عاقل نسبتها إليه، وهو الذي يقول في كتابه الكريم صراحة: "وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا"، ويقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده"، ويقول أيضاً: "لأن يأخذ أحدكم حبلة فيأتي بحزمة من حطب على ظهره فيبيعها فيكف بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أم منعوه".

  undefined
  
يا سبحان الله! دين يدعو الناس إلى الجد والعمل وتنعى نصوصه على التقاعد والتواكل والكسل.. أيكون داعية تقصير، وعامل إضرار بالأسباب الدنيوية؟؟ اللهم إن هذا جهل شنيع!! اللهم إنه افتئات وتشويه حقائق ما بعده افتئات!! ولكنها الجهالة والعمى والتقليد الاعمى، نعوذ بالله من ذلك.

 
إن قيام السلف الصالح والصدر الأول من المسلمين بحقوق الإلهية وحرصهم على الواجبات الدينية، ما منعهم وما حال بينهم وبين العناية بالأسباب الدنيوية، وما قعد بهم أن يبزوا الأمم في وسائل المدنية والحضارة، ويؤسسوا دولة حسبنا من الإشادة بها الإشارة إليها. بل لقد كان اتصالهم بالدين وتشبع نفوسهم بمبادئه الحقة وتعليماته القويمة أكبر قوة اعتمدوا عليها في سعيهم وجهادهم، مصداقاً لقوله تعالى: "لَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ"، "وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ"، ولقد كان ذلك كله حقيقة لا مراء فيها، ولا شك يتسامى إليها، أو يحوم حولها.

 
ووالله ما ذٌل المسلمون واستعبدوا في مواطنهم وصاروا غرباء نزلاء في بلادهم إلا من وقت أن تهاونوا في أوامر الله لهم وواجبات دينهم، ونظروا إلى تقاليده السماوية نظرتهم إلى شيء لا يستحق البقاء، ولا يستأهل العناية والرعاية، ولقد والله ضحوا بالدين بغية إدراك الدنيا فضاع الاثنان.

 
نـــرقع دنيــــانا بتمزيق ديـننــــا
فلا ديـننــــا يبقى ولا ما نـــرقع

 
ولقد حق علينا كمفرطين مثلٌ ضربه الله في سورة النحل حيث يقول: "ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ"، ونعوذ بالله من السلب بعد العطاء! فلننزع تلك الأوهام والخيالات الفاسدة من أدمغتنا، ولنحرص على الامتثال لمبادئ وقيم ديننا ضناً بأنفسنا أن نتعرض للمهانة الأخروية والخزي الطويل الأمد.. فمن عمل صالحاً لنفسه ومن أساء فعليها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.