شعار قسم مدونات

البحث عن الخلافة

مدونات - دمار

من ذا الذي لا تتشوَّفُ نفسُه إلى عودةِ المسلمين إلى عهدهم الأول، عهد الخلافة: أمةٌ واحدة، ورايةٌ واحدة، وقائدٌ واحد؟! ومن ذا الذي لا يحنُّ إلى مدرسة السياسة الشرعيّة في أيام عمر بن الخطاب، وهو يتفقّد رعيّته، ويتحسّس حوائج فقرائها، ويرسل العسس في الدولة كي يأمِّنَ أهلها؟! بل من ذا الذي لا تتوقُ نفسُه إلى سيرةِ العدلِ في أيام عمر بن عبد العزيز، وخزائنه تفيض عن حاجات الناس فيأمر بإطعام الطيور في قمم الجبال؟! ومن ذا الذي لا تتحرّك نفسه -عزةً وفخراً- وهو يقرأ في صحف التاريخ أن هارون الرشيد (الغازي الحاج) يخاطب مزن السماء قائلاً: أمطري حيث شئت فسيأتيني خراجك؟!
 
بل إنَّ النّاظرَ في حالِ الأمةِ في عهودِ الخلافةِ المتعاقبةِ يجدُ فيها جميعاً -برغم تفاوت قوّتها ومُكنتها- حفظاً لكرامة أتباعها وعزتهم. وإن كان في عهد بعض الخلفاء قد فشت بعض المظالم، وسال دمٌ غزير، وتبدّى بعض الطغيان، إلا أنّ الأمةَ ظلّت مهابةَ الجناب، لا يجرؤ عليها أعداؤها ولو تحزّبوا. وقد ظلت كذلك حتى أُسقطت الخلافة من أن أيدي العثمانيّين أخيراً، ولم تفلح كل المحاولات المتواضعة لاستعادتها.
  
والقارئ للنصوص القرآنية والأحاديث النبوية والآثار المروية لا مناص أن يدرك موعود الله بالخلافة، وأن المسلمين مطالبون أن يكونوا جماعةً واحدة تحت خلافةٍ واحدة، بغضِّ النَّظر عن كيفية هيكليَّتها مادامت على قوامٍ شرعيّ. فليس شرطاً أن يجتمع المسلمون كاجتماع الثّقيفة كي يخرجوا بخليفة، بل قد يكون نظام الخلافة مستحدثاً، إمّا اتحاداً أو فيدراليّةً أو غيرهما كما أشار غير واحدٍ من العلماء المعاصرين.
 undefined
 
وقد ظهرت جماعاتٌ شتّى تنادي بالخلافة؛ لإدراكها أن قَدَر المسلمين أن يتجمعوا تحت بوتقة أمة واحدة فيعودَ سالف عهدهم الغابر. غير أن هذه الجماعات ليس كلها على قلب واحد، فقد تنوعت مناهجها واختلفت طرائقها ووسائلها. 
 
فمنهم من صرف كل همّه إلى العقيدة؛ لاعتقاده أنه أول ركائز الدين، لكنه أهمل كل ما سواها من جوانب الحياة، كما فعلت الحركة الوهابية. فالوهابية -وإن كانت في وقتٍ ما حركةً تجديديّةً- قد خفتَ بريقها وصارت مطيّةً لرغائب الحكام، وفرّخت جماعات كانت على الأمة وبالاً كالجامية والمدخلية، وكأنها ظهرت للقيام بمَهمةٍ محددة قبل أن تندرس، وما حدث بعد ذلك ما هو إلا سوء استغلال لها بسبب ما كُتب لها من قبولٍ لدى الناس.
 
ومنهم من أقام فكرَهُ على تجميد الحياة السياسة كحزب التحرير، بل وحرّم على أتباعه المشاركة فيها، بانتظار ظهور الخليفة. فالحزب وإن كان ذا قبولٍ عريضٍ بين جماهير الأمة إلا أنه سرعان ما تلاشت تلك الجماهيريّة ليقتصر نشاطه على تنظيم مؤتمراتٍ ومنتدياتٍ في قاعاتٍ مغلقة.
  
ومنهم من اتخذ الانخراط في تفاصيل الواقع والعمل على تغييره (البراجماتيّة) هدفا للوصول إلى تلك الخلافة، كما فعل أتباع كبرى الجماعات الإسلامية انشارا "حركة الإخوان"، لكنهم تاهوا في تفاصيل ذلك الواقع، حتى لا تكاد ترى مصطلح الخلافة إلا في دساتيرهم العتيقة. وتعد الحركة -برغم كل ما يؤخذ عليها- الأنشطَ ساحةً، والأقدرَ حشداً، والأنورَ فكراً.
  

سيبقى البحث عن الخلافة جارياً ما دامت الأمة تعيش تشرذمها المشهود، وما دام في قلب أتباعها ذرة يقين بحتميّة التّمكين لها
سيبقى البحث عن الخلافة جارياً ما دامت الأمة تعيش تشرذمها المشهود، وما دام في قلب أتباعها ذرة يقين بحتميّة التّمكين لها
 

ولمّا ظهر ما سُميّ بالربيع العربي طفقَ المبشرون يهلِّلون له باعتباره مُجهض الحكم الجبريّ ومخلِّص الشعوب من الشرذمة المخجلة، وظنّ كثيرون أنَّ أوان الخلافةِ قد آن. وللأسف فقد وقعت بعض الجماعات الإسلامية في ذلك الاعتقاد وأقعت كثيراً من جماهيرها فيه من أجل مصالحها الآنيّة الضيّقة.
 
ولما انقشعت ديمةُ الأحلام عن سماء الواقع، استيقظ الجميع على غير ما حلموا به وسوَّقوه. وكان أن عادت الأمور إلى أسوأ من سابق عهدها، كما ظهرت آخر الجماعات، وهي التي تسمّت الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش اختصاراً). أما هذه فلا يُعرف لها دستورٌ واضحٌ ولا طريقٌ بيِّنٌ ولا حتى تفاصيل ظهورها المريب، غير أنها منذ ظهرت وهي تزعم أن هدفها هو الخلافة الإسلامية، وباشرت البحث عن خلافتها المزعومة في جماجم الأبرياء من المسلمين قبل غيرهم.
 
وسيبقى البحث عن الخلافة جارياً ما دامت الأمة تعيش تشرذمها المشهود، وما دام في قلب أتباعها ذرة يقين بحتميّة التّمكين لها. وفي ذات الآن ستبقى مسألة الخلافة رهينة دساتير الجماعات الإسلامية ومائدة أحاديثهم، سواء عملوا جادين من أجلها أم اكتفوا باتخاذها غرضاً لتحقيق مآربهم وتطلعاتهم السياسية القصيرة النظر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.