شعار قسم مدونات

كيف تخدم الأقصى بالترجمة؟

مدونات - القدس وعلم إسرائيل

في ظل الظروف القاسية التي تكابدها أمتنا، وأمام أمواج الذل والهوان التي تلطمنا مرة تلو الأخرى، يتساءل الكثير من المسلمين ممن أكرمهم الله ببقية غيرة على هذه الأمة عما بإمكانهم فعله لتغيير هذا الوضع المزري الذي لا يرضاه أي مسلم في قلبه ذرة إيمان، وفي الواقع هناك الكثير لنفعله مما هو في متناول أيدينا جميعا، لكن الله لا يلَقِّيه إلا الذي صدق في عزمه وكان الأقصى همه. ولعل فكرة الترجمة التي سأتكلم عنها في هذه التدوينة مجرد نموذج لنمط التفكير الذي أتمنى أن يسير عليه كل مسلم في نصرته للأقصى وللأمة مهما كانت الوسائل زهيدة.
 
بدأت قصة الفكرة بظاهرة تاريخية غريبة وعجيبة، كيف يمكن لأمة لا تتجاوز العشر ملايين أن تُذِل وتتحكم كليا في أمة تفوق المليار والنصف؟! أنى لعشرة نفر أن يهزموا ألفا وخمسمائة؟! لا شك أن لهذه القوة أسبابا، ولست أدعي أني أحطت بها جميعا رغم السنوات التي قضيتها متأملا هذه الظاهرة، لكنني متيقن أنها لم تكن لتكون لولا ضعف المسلمين أولا -وليس هذا مقام الحديث عنه- واستئساد الصهاينة ثانيا. أما استئسادهم فأسبابه عديدة، أذكر منها تركهم للفرقة واجتماعهم على كلمة واحدة، وقيام دولتهم على الدين والتزامها به وبذلها كل شيء في سبيله، لكن السبب الذي استرعى انتباهي هو عنايتهم الكبيرة بالعلم أو بعبارة أخرى "بإعداد القوة"، فيكفيك أن تلقي نظرة للحائزين على جائزة نوبل في العلوم خاصة لتعلم عما أتحدث.

 
يقدر عدد اليهود في العالم -صهاينة وغير صهاينة- بـ14.4 مليون، أي حوالي 0.2بالمئة من سكان العالم، العجب أن هذه النسبة الضئيلة حصدت 56 جائزة نوبل في الطب أي بنسبة 27بالمئة من كل جوائز الطب، و54 بالفيزياء (26بالمئة) و36 بالكيمياء (20بالمئة) وبالاقتصاد -والتي انطلقت منذ 1969- حصد اليهود 31 جائزة أي 40بالمئة من كل جوائز نوبل للاقتصاد، حصَّلها 0.2بالمئة من سكان العالم؟! تربع اليهود بجدارة على عرش الجائزة بنسبة 23بالمئة من كل الفائزين، وبنسبة 37بالمئة من الفائزين ذوي الجنسية الأمريكية، وهذا بدون شك برهان قاطع على الاهتمام اليهودي الشديد بالعلوم لما توفره من قوة وبأس لأمتهم والتي كانت منذ زمن قريب تقبع في ذيل الأمم.

  

القوة في عالمنا المعاصر لم تعد بالسيوف والدروع والرماح، بل صارت بالعلم والاقتصاد والاكتفاء الذاتي وتصنيع الأدوية والمعدات والأسلحة والقنابل
القوة في عالمنا المعاصر لم تعد بالسيوف والدروع والرماح، بل صارت بالعلم والاقتصاد والاكتفاء الذاتي وتصنيع الأدوية والمعدات والأسلحة والقنابل

 
بل إن كبار ومؤسسي علوم بأكملها يهود أو من عائلة يهودية على غرار آينشتاين وفرويد وكارل ماركس وكارل ساغان ونيلز بور وماكس بورن وغيرهم كثير، ولا ننسى إمبراطورياتهم التي تسيطر على الإعلام أو على البنوك العالمية كعائلة روتشفيلد ومؤسسي ومديري شركات كبرى كغوغل وإنتل ودِل وماك دونالد ووكالة رويترز واللائحة لا تنتهي، أما أمة اقرأ التي تشكل ربع سكان العالم فلم تحصل إلا على 12 جائزة من كل الجوائز معظمها في السلام (7 مقابل 9 لليهود) واثنان بالأدب واثنان بالكيمياء وواحدة بالفيزياء ولا شيء بالطب والاقتصاد، وكأني بقوله تعالى: "وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِندُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْۚ" قد نزل على الصهاينة ولم ينزل علينا!

 
فوالله إنهم لأشد منا تمسكا وعملا بها، فالقوة في عالمنا المعاصر لم تعد بالسيوف والدروع والرماح، بل صارت بالعلم والاقتصاد والاكتفاء الذاتي وتصنيع الأدوية والمعدات والأسلحة والقنابل النووية الرادعة التي تصنعها الفيزياء والكيمياء لا العضلات والشعارات والأعداد الهائلة من البشر الذين نخرهم الوهن، صارت القوة في الإعلام والكاميرات والأفلام التي تنتج أفكارا تحرك ملايين البشر معك أو ضدك، وهذا ما فطن له الصهاينة وذهلنا عنه، حتى أن إقناع الشعب الأمريكي بدخول أمريكا للحرب العالمية الثانية لم يكلف حكومتها سوى رسم كاريكاتوري من خبير إعلامي.
 

ثم جاء المفصل الأخير في الفكرة، كيف تُحصل هذه العلوم؟ لا شك أن العلماء والمعلمين أولا ثم الكتب ثانيا هي المصادر الأساسية لهذه القوة، لكن الكتب مكتوبة بلغة انجليزية لا يتقنها معظم المسلمين، وكل من أراد تحصيلها إلا واصطدم بجدار اللغة، ولا شك أن تحصيل العلوم باللغة الأم التي ندرس بها منذ الصغر وفي معظم مراحل تعليمنا أفضل بكثير من غيرها، ومن هنا جاءت الحاجة الملحة إلى ترجمة المراجع العلمية الانجليزية في شتى العلوم إلى العربية ولغات المسلمين الأخرى، أما ميزة العربية فكون كلام الله يفهم بها فإن توفر كم هائل من الكتب والموسوعات العلمية المرجعية في شتى العلوم فإن هذا سيزيدنا ويزيد الأمم الإسلامية غير العربية اهتماما وتمسكا بالعربية وبالتالي تقربا إلى القرآن، ثم توفرها سيحطم حاجز اللغة الأجنبية أمام العباقرة العرب -والأعراق المسلمة الأخرى- الذين سينهلون من هذه العلوم ويحررون أفكارهم وحتما ستكون هذه خطوة عملاقة نحو ترميم صرح الأمة.
 

  undefined
 
  
لكن السؤال الآن: ومَن مِن المترجمين سيهتم بتعريب مراجع كبيرة لن يشتريها معظم الناس في زمن آراب آيدول وميسي وهز الخصور؟ وأي أرباح تجارية ستجنيها دور النشر؟ وهنا تنبهت لأمر أعجب ولم أدر أفعلا يراد لنا أن نبتعد عن هذه العلوم أم أننا زهدنا فيها فعلا؟ لماذا تُعرب عشرات الآلاف من الأفلام والمسلسلات الأمريكية والتركية والهندية والمكسيكية والكورية وغيرها وتترجم ملايين اللقاءات مع لاعبي كرة القدم وممثلين سخيفين وتترجم آلاف الروايات البوليسية التي لا تسمن ولا تغني من جوع، ومع ذلك لا يُترجم من المراجع العلمية إلا عدد هزيل؟؟ لكن ما أعاد لي الأمل هو أنني أردت مرة أن أنضم لمبادرة الباحثين السوريين، فصدمني أحد الأسئلة التي يطرحونها: "ينضم إلينا كل شهر أكثر من 200 متطوع، ما الذي يجعلك مميزا عنهم؟" ومن رحم هذا الأسى والغيظ وُلدت فكرة مبتكرة تُسمى "المبادرة العربية للترجمة العلمية".

  
كنت أتمنى ألا أخوض في التفاصيل التقنية لهذه الفكرة في تدوينة كهذه، لكن الفائدة لن تكتمل إلا بمعرفتها، يُمكن لهذه الفكرة تعريب مراجع لأي علم من 1000 صفحة في ظرف أسبوع عن طريق فيسبوك فقط، قد يبدو هذا غريبا لكنه واقع عملنا عليه وطورناه منذ أكثر من عام وتحققنا إمكانه، ولا تكتفي هذه الفكرة بتعريب الكتب بل يمكنها تكوين كم هائل من المؤلفين على المدى الطويل بجهد بسيط، كما تُنشر الكتب مجانا مثل دار هنداوي، ويمكن استعمال هذه الفكرة لتعريب التطبيقات الحاسوبية والهاتفية والمجلات والمواقع والمقاطع التعليمية والمقالات العلمية، أما طريقتها فبإجمال وتجاوز للتفاصيل: تُنشأ مجموعة فيسبوك مغلقة لكل علم (طب، اقتصاد، فيزياء، سياسية، رياضة..).
  

وداخل كل مجموعة يتم إنشاء مناسبات خاصة بكل 50 صفحة من كتاب معين تم اختياره، وداخل كل مناسبة يوجد مراجعون مسؤولون عن تنظيم وجمع ومراقبة المشاركات، ويوجد منشور مثبت بأعلى كل مناسبة يحوي رابط الصفحات أو الكتاب -طبعا بعد موافقة أصحاب الحقوق-، يقوم كل مشارك -ولا يشترط خبرة في الترجمة ولكن يشترط كونه من أصحاب الاختصاص والفهم الجيد للإنجليزية- بتحميل الكتاب واختيار صفحة واحدة معينة ضمن صفحات المناسبة ووضع رقمها بالتعليق على المنشور المثبت حتى لا يحجزها غيره..
 

لا أدعي أن فكرة ترجمة الكتب وتعريبها هي الحل النهائي لمشاكلنا، لكنها حتما خطوة هامة نحو إعداد القوة التي لا غنى لنا عنها اليوم أو مستقبلا
لا أدعي أن فكرة ترجمة الكتب وتعريبها هي الحل النهائي لمشاكلنا، لكنها حتما خطوة هامة نحو إعداد القوة التي لا غنى لنا عنها اليوم أو مستقبلا
 

ثم يشرع في تعريبها ثمّ ينشرها على المناسبة المعنية بحيث ينشر ترجمته نصا رفقة صورة للصفحة الإنجليزية (التعريب txt والأصل jpeg) وبهذا يسهل على أي مشارك -بمقابلة الصورة مع النص- مراجعة الترجمة وتصحيحها بالتعليقات وتحسين العبارات وإعادة صياغتها ومناقشتها، وهذا يطور مهارة الترجمة للمشاركين بتصحيح أخطائهم، ولما تنتهي الخمسون صفحة يقوم صاحب كل صفحة بتعديلها حسب التعليقات لتكون جاهزة ليجمعها مشرفو كل مناسبة في ملفات ليقوموا بمراجعتها ثانية، ثم تسلم جميع ملفات الكتاب أخيرا لمراجعين علميين ومراجعين لغويين لمراجعة ثالثة لكامل الكتاب، وبعدها تسلم لمصممين لينشروا الكتاب في أبهى حلة وهذه هي الفكرة باختصار.

 
لا شك أنه إن نجحت هذه الفكرة البسيطة بوسائلها فإنها ستغني المكتبة العلمية العربية بشكل كبير وسريع، وليس هذا فحسب بل يمكنها أن تجمع مشاركين من كافة الأوطان العربية للعمل تحت مظلة واحدة وهذا من الأحلام التي لا زالت تراود الكثير منَّا. لا أدعي أن هذه الفكرة هي الحل النهائي لمشاكلنا لكنها حتما خطوة هامة نحو إعداد القوة التي لا غنى لنا عنها اليوم أو مستقبلا، فهل سنترك لأولادنا هذا الواقع العفن أم ننهض لتغييره؟

 
لم يكن غرضي الأساسي عرض الفكرة بقدر ما هو أن أشارككم بإمكانية أن تخدم الأقصى "بالتفكير وبأبسط الوسائل" اصدق العزم وتأمل من حولك وستعلم أنك بعقلك وتفكيرك فقط قد تكون صلاح الدين. وربما حان الوقت لنقتدي بأعدائنا في التمسك بالدين والاهتمام بالعلوم ونحاربهم بسلاحهم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.