شعار قسم مدونات

تحرير القدس يبدأ من دمشق

Blogs- فلسطين

حدثنا أجدادنا عن التضحيات التي قدمها الشعب الفلسطيني إبان الانتفاضة الأولى والثانية، فمنذ بدء الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين 67 وحتى يومنا هذا لا تزال شرارة الانتفاضة شُعلة متوارثة للأجيال، حمل لواؤها شباب النور الأكاديمي الحامل بالتواتر ثوابت الثورة الفلسطينية في حق تقرير المصير، إذ كان نتاج انتفاضة 1987 امتداد للصمود المتواصل لحملة قضية العرب والمسلمين، واستطاعوا آنذاك انتزاع الاعتراف بوجود الشعب الفلسطيني لسكان الضفة والقدس والقطاع، وأدركت حينها إسرائيل استحالة وأد الانتفاضات عسكرياً ولجأت إلى حلحلة الأمو سياسيا من بوابة المفاوضات التي انطلقت عقب اتفاق أوسلو 1993. 

  

وبعد قبول الجميع بمسار المفاوضات تفننت إسرائيل في تميع الحقوق وأدخلت الشعب الفلسطيني، وكل القيادات في نفق مظلم لا يُعرف لمخرجه من نور، وهو ما نتج عنه بدء مرحلة التهويد اليهودي للقدس الشريف، في تكريس المستوطنات الإسرائيلية واحتلال للأراضي وسلب الحقوق والممتلكات، وقد تم تغيب القضية لسنوات مضت استطاعت فيها إسرائيل تطبيق النبوءات الإسرائيلية في البحث عن هيكل سليمان، على اعتبار أن القدس بناها اليهود وهو ما مخالف لآلاف الوثائق التي تثبت بأن العرب اليبوس الكنعانيون هم من بنوا القدس، وما ادعاءات اليهود إلا نبوءات يسعون من وراءها إلى تحقيق مكاسب سياسية لانتزاع الحقوق من أصحابها.

  
عطفاً على اللمحة البسيطة لم تكن الدول العربية حينها في صدد فعل أي شيء سوى بيانات التنديد وعقد قمم عربية ومؤتمرات، باستثناء تونس التي احتضنت منظمة التحرير الفلسطيني آنذاك، أما بقية الدول العربية اكتفت باستقبال من تشرد من ملايين الفلسطينيين في أراضيها وأقامت لهم مخيمات، وبالفعل توزع الحلم الفلسطيني ليمتد في كل ربوع الوطن العربي حاملين معهم أمل العودة والرجوع، وهو الحلم الذي لم ينتهي بل امتزج مع انطلاقة ثورات الربيع العربي من تونس إلى مصر وليبيا واليمين وصولاً إلى سوريا.

   
ومع انطلاقة ثورات الربيع العربي تبين للشعوب التواقة للحرية أن الدول العربية تاجرت بالقضية الفلسطينية لعقود، وخدعت شعوبها بشعارات قضية العرب الأولى وما تبعها من سيمفونيات الصمود والمقاومة في سويا وإيران ولبنان، وهو ثالوث المقاومة الوهمي، شيئاً فشيئاً أسقطت الثورات أقنعة العروبة العربية من خلال التواطؤ والتآمر الممنهج الممارس على حرية الشعوب، ولولا مساهمة الدول في خلق الثورات المضادة، لربما كنا اليوم على أعتاب المسجد الأقصى.

 

جاء قرار ترمب بوقت تعيش فيه الأمة العربية انحدارها الأخير، متقطعة أوصالها، متآكلة أطرافها، منتهبة ثرواتها، منقسمين على ذاتهم، بأسهم فيما بينهم شديد
جاء قرار ترمب بوقت تعيش فيه الأمة العربية انحدارها الأخير، متقطعة أوصالها، متآكلة أطرافها، منتهبة ثرواتها، منقسمين على ذاتهم، بأسهم فيما بينهم شديد
 

من منطلق ديني ونفاذ لكلمة الله شاءت الأقدار أن تُعري تلك الأنظمة وتبلورت صورة واضحة بين محور سعودي إماراتي مصري، وبين محور إيراني لبناني بحريني، فالصراعات الداخلية وشهوة المال والسلطة واستحكام الأنظمة المستبدة لقبضة الحكم أسهمت في تفرد إسرائيل وواشنطن في بدء رسم جديد للشرق الأوسط عبر تغذية الصراعات في ربوع المشرق العربي، فتم هندسة للثورات المضادة وتم وضع سيناريو لكل دولة على حدا، ففي مصر تم حرق ورقة الإخوان بعد الإطاحة بحسني مبارك وتسليم الحكم لمحمد مرسي لعام واحد، ثم الإطاحة به وتحمليه أوزار ما أنزل الله بها من سلطان، وفي ليببا تم وضعها في مستنقع الجحيم التي بدأت مع نهاية القذافي، وقد غدا اليمن السعيد بلد اللاسعادة بعد إطلاق يد إيران التي شكلت مليشيا الحوثي من أقلية الأقليات من قبائل اليمن.

                                                                                                             

وهي اليوم ترتكب مئات المجازر بحق أبناء الشرعية بعد وضع نهاية لعلي عبد صالح الذي راح ضحية خبثه وتآمره على حرية أبناء بلده، وفي سوريا حمًّل المشهد مأساة العصر الحديث بثورة لا زالت مستمرة قدمت مليون شهيد وتهدمت معالم الحضارة ودفنت أحلام السوريين وغدت سوريا اليوم ورقة للمتاجرة والمقايضة بين دول الدول الإقليمية العربية والغربية، فالمصالح الكبرى وتناقضاتها دفعت تلك الدول إلى حماية بشار الأسد ومنعت خصومه من النيل منه، بل على العكس وفرت له كل الحجج والذرائع لقتل أبناء شعبه، وتدمير تراث السوريين وطمس هويتهم، وقد ثبت زيف حقيقة محور المقاومة المتمثل بإيران وحزبه في لبنان حسن نصرالله بعدما تغلغلت إيران في كل بقعة سورية واستنسخت طوق بغداد حول العاصمة دمشق.

 
أحلام ثورات الربيع العربي قد تبدت إلى خريف مشؤوم، وتمللت الشعوب من حكامها وتعشش شعور اليأس داخل الأفئدة والأبدان، وقد زاد المشهد سوداوية تاجر الصفقات رجل المرحلة الحالية، تم وضعه في بوذ المدفع، ليُطلق رصاصة نارية استقرت في أحشاء الأمة العربية. في الأمس القريب أطل علينا رئيس الولايات المتحدة الأمريكية "دونالد ترمب" ليُخبرنا أنه رجل المبادئ فالوعد عنده دين ووفاء، لا سيما عندما يتعلق الأمر بالجارة إسرائيل، فقد قرر الوفاء لها بوعد قطعه على نفسه عندما تصدرت حملته الانتخابية الرأي العام، خرج بخطوات حازمة مطل على حاضنته الشعبية ضارباُ بعرض الحائط كل القوانين والمواثيق الدولية، وغير مبالي بمشاعر مليار ونصف المليار من المسلمين، وقدم القدس هدية لإسرائيل.

  

ترمب أخبرنا أن التشاور مع زعماؤنا قد جرى على قدم وساق، وهو السبيل لمفاوضات صلح بين العرب وإسرائيل
ترمب أخبرنا أن التشاور مع زعماؤنا قد جرى على قدم وساق، وهو السبيل لمفاوضات صلح بين العرب وإسرائيل
 

جاء قرار ترمب بوقت تعيش فيه الأمة العربية انحدارها الأخير، متقطعة أوصالها، متآكلة أطرافها، منتهبة ثرواتها، منقسمين على ذاتهم، بأسهم فيما بينهم شديد، يغيب عنها الزعيم العربي والحاكم الرصين، وشعوبهم منهمكةً رقابهم بالوحل والطين، يصارعون ويقاتلون لنيل حقوقهم، فلم يعد يمننا سعيد ولا شامنا دمشقي ولا بغدادنا عراقي ولا في لبناننا بيروت، فكيف بهذا المشهد إذاً أن يبقى لنا قُدس شريف، وهل يتجرأ رجل التجارة بزلة لسانه لو أن في العرب حصن حصين، لكن ترمب أخبرنا أن التشاور مع زعماؤنا قد جرى على قدم وساق، وهو السبيل لمفاوضات صلح بين العرب وإسرائيل. حقيقة ماثلة أمامنا أن إسرائيل في أحسن حالها والقرار الذي تأجل لأكثر من عشرين عاماً قد ظهر بتوقيته المناسب، وهل نتوقع من الاحتلال الغاشم أن يقدم لنا قدسنا عربون جميل؟

  
كما أننا نتساءل اليوم ما سبب تحرك الزعماء بعقد القمم الطارئة وإصدار بيانات الاستنكار والشجب، في وقت الجميع يعلم مسيرة التطبيع، كما أن الرئيس الفلسطيني نفسه يعلم مآلات الخطط والتدبير، فبعد يومين من لحظة ترمب التاريخية كشف مسؤولون فلسطينيون عن صفقة كبرى للسلام يتم العمل عليها بين إسرائيل وتيار الدول الإسلامية المعتدلة في العصر الحديث، وقد عبروا عن خشيتهم باتفاقية تمنعهم من حق العودة وتقرير المصير.

  
كما تساءل البعض كيف لانتفاضة اشتعلت في باحات المسجد الأقصى وصرخات الشعوب العربية في عواصم بلدانهم بعدما انتفضوا أن يسهم ذلك تقدم بمفاوضات السلام، وكيف يمكن أن نصدق كلام السفيرة الأمريكية "نيكي هايلي" أن أمريكا بعد قرار ترمب لا زالت تمارس هي الوحيدة الدولة الراعية للسلام، بمنعى آخر كيف لاغتصاب القدس أن يساهم في إخماد الشعوب، وهل قرار كهذا كفيل لنسف تاريخ الصمود العربي، ومن قال أن القدس خاصة بأهل الجليل أو رام الله أو بيت لحم، القدس مهد الأديان وتاريخ العرب والمسلمين، وهي أولى القبلتين وثالث الحرمين.

   
أما السؤال هل تحرك العرب اليوم سيعبقه خطوات عملية لوضع حد لإسرائيل، فهو الممكن والمستحيل، فكيف لنا أن نحرر قدسنا وشامنا محتل، وعراقنا مغتصب ويمننا معذب وليبنا منتهك، سيما أن محور الممانعة من إيران وحزب الله فد أعلنوا تحرير القدس بشعاراتهم الفيسبوكية وهو ما يثبت تآمرهم ومتاجرتهم بالقضية عبر عقود.

 
إن تحرير القدس في زمننا هذا يبدأ أولاً بإطلاق معركة الوعي بواقعنا المريض، فمن قال طريق القدس يمر من دمشق وقصد بها باطل، هي ذاتها صحيحة لكن بمفهومها الحق فبعد أن سيطرت إيران على أربعة عواصم عربية فإن تحرير القدس يبدأ من تحرير دمشق، وهو ما يحتاج أولاً إلى خلاص الشعوب من الأنظمة المستبدة المتاجرة بكل القضايا على مر العقود، أما المحرك الأول والأخير هي الشعوب الواعية لمعركتها المصيرية، فعندما نتخلص من الأنظمة المستبدة ونزود من نفق الحرية عندها ستكون كل الطرق والمنافذ تؤدي إلى القدس.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.