شعار قسم مدونات

أميركا وجنينها المشوّه

blogs ترمب و نتينياهو

إعلان الرئيس الأميركي قرار الاعتراف بالقدس عاصمةً لما يسمّى دولة "إسرائيل" ونقل سفارة بلاده إليها مُحيِّر، في توقيته وليس في مضمونه. دونالد ترمب المعروف بلا مبالاته وتهوّره أوفى بوعده الانتخابي متأخّرًا، فهل كانت أسباب التأخير تقنيّة؟ أم تكتيكية بانتظار إشارات تَغَيُّر على الساحتين العربية والإقليمية؟ المشهد السياسي واضح لكل مُراقب منذ تسلّم ترمب الرئاسة.

داهن رؤساء أميركا السابقون لتجنّب تنفيذ القرار، خوفًا من عواقبٍ كارثية تطيح بعملية السلام في المنطقة من جهة، وتهدّد سلامة وأمن الأميركيين في الداخل والخارج من جهة أخرى. أما ترمب ففعلها، ولو بعد تريّث، فأدخل الولايات المتحدة نفقًا لا يبشّر إلا بالاصطدام بقطار المجهول.

إسرائيل تدرك، من جهتها، أنها أوهن من اتخاذ خطوات عملية لتنفيذ القرار. فبالرغم من سرور رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بإعلان ترمب، ولو سلّمنا بفرضية أن دولاً ستحذو حذو أميركا كما يدّعي، فهو الأكثر علمًا بتجارب انتفاضات الشعب الفلسطيني في سنوات 1987 و1996 و2000 و2015 التي أسقطت الرهان بتحقيق الحلم الإسرائيلي وأثبتت للعالم أن القدس خط أحمر.

ما زالت تصريحات نتنياهو في أكتوبر الماضي حاضرة في الأذهان وهو يعبّر عن قلقه من احتمال زوال دولة الاحتلال الإسرائيلي خلال السنوات المقبلة ويطالب بلاده بأن تستعد لهذا اليوم من الآن، مجفّفًا عرقه. كالسارق الذي يحوم حول سرقته، استنجد بالدول الصديقة للاعتراف بما يسمى دولة "إسرائيل" و"دولة الشعب اليهودي". وباعتراف أكاديمييها، فشلت إسرائيل في تحقيق المبتغى لمّا حاولت مرارًا فرض سيادتها على الحرم المقدسي، وانتهت بسيادة أقل مما كانت عليه.

أيقنت أمريكا أنها لن تنجح بعقد الصفقة الكبرى ولن تتمكن من تقويض أي مظاهر مُقاومة، فوضعت جنينها المشوّه وأسقطت القرار على واقعٍ بالغ التعقيد متجاهلةً لمآل لا يُحمد عُقبا
أيقنت أمريكا أنها لن تنجح بعقد الصفقة الكبرى ولن تتمكن من تقويض أي مظاهر مُقاومة، فوضعت جنينها المشوّه وأسقطت القرار على واقعٍ بالغ التعقيد متجاهلةً لمآل لا يُحمد عُقبا
 

معلومٌ أن المرحلة الراهنة ستبثّ المزيد من الانهزام النفسي على نطاق عربي واسع، نظرًا لانهيار البنيان الداخلي وقوطبة الأوهام على أفكارنا وحياتنا إلى حد التفتيت والتشتّت. فتسارُع وتيرة الأحداث الأمنية والتردّي السياسي والأخلاقي والإنساني، أبقيا على كتيبة "التخريب المنظّم" التي تحكم المنطقة وتتحكم بمصيرها، والتي أخذت على عاتقها مسؤولية بتر القضية الفلسطينية بشتى الوسائل، غير مكترثة لمحاولات انتزاع المواطن الفلسطيني لكيانه ووطنه وأرضه، وهو ما اتكأ عليه ترمب في قراره الأخير مطمئنًّا لفقدان البوصلة العربية والتّماهي مع مختلف أشكال العولمة إلى حد باتت فيه الكتيبة تحتاج إلى "عوربة" جديدة.

لكن الشعور بالإحباط والتعبير عن السخط بالفرار من واقع التحديات وما تتطلبه من يقظة ودراية إلى التغنّي بالماضي المجيد، لن يفيد القضية الفلسطينية في شيء ولن يثني الأطماع الإسرائيلية ولن يزيد أو يُنقص من عزيمة المجاهدين في فلسطين المحتلة. ومن الوهم الاعتقاد أن ما يحاك من مشاريع تسوية على حساب الحقوق الفلسطينية سينجح في تحقيق ما عجزوا عنه في العقود السبعة الماضية، كما يثبت قصر نظر أصحابه لحقيقة أميركا- الشرطي الوصي على العالم- التي باتت مع ترمب مكشوفة ومجرّدة من أي مصداقية. جاء ليعلنها صراحةً أنه يحب إسرائيل ويحرص على أمنها واستقرارها، وتوّج هذا الحب أخيرًا بالاعتراف بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال.

تبقى القوة الحقيقية الوحيدة المعوّل عليها في الشرق هم المقدسيون أنفسهم، هم المقاومة الثابتة التي مرّت بمنعطفات واصطلت بنار المؤامرات ومحاولات التصفية، ومع ذلك أدّت على مدى عقود أدوارًا جليلة ساهمت في تحجيم طموحات المشروع الصهيوني لأنها تؤمن بقول الله: "وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ". صحيح أن الاختلاف بين القيادات الفلسطينية أفسد للودّ قضية، لكن ليس أمام القيادات الفلسطينية سوى توحيد الصفوف من أجل استعادة زمام المبادرة لإطلاق انتفاضة جديدة. 

أعادت الإدارة الأميركية، مشكورةً، القضية الفلسطينية إلى دائرة الضوء. أيقنت أنها لن تنجح في عقد الصفقة الكبرى ولن تتمكن من تقويض أي مظاهر مُقاومة أو "تحريض على الإرهاب" كما يسميها ترمب، فوضعت جنينها المشوّه وأسقطت القرار على واقعٍ بالغ التعقيد متجاهلةً لمآل لا يُحمد عُقباه. في أفضل الحالات، لن تكون النتيجة سوى تفجير للأوضاع الراهنة وتفريخ أزمات جديدة، مما يذكّر بالمثل القائل: كم من حتوف في حروف! فهل ستطيح حروف ترمب بالمكانة العالمية للدولة العظمى؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.