شعار قسم مدونات

رحلتي من الإيمان إلى الشك

Blogs- sky

عكس كتاب مصطفى محمود "رحلتي من الشك إلى الإيمان"، فأنا اليوم سأحكي عن رحلتي من الإيمان إلى الشك ليس بذاك الشك الذي ربما ستتهمني به، بل الشك الذي يخوضك إلى تلك التساؤلات التي طرَحتَها في طفولتك لكن والدك أو معلمك أوصاك بأن تنسى وألا تخوض فيها من جديد لأن العقل قاصر على الإجابة رغم أن العقل هو نفسه من يسأل، من خلق الكون وكيف خُلق؟ من أين أتينا إلى أين نذهب وما دورنا في الأرض؟

 

الشك ليس كفراً لأنه قد يتسلل إلي القلب بشكل لا إرادي، كما أنه طبيعة بشرية فإما أن تطمرها بتجاهلك وتقنع نفسك أنك بأحسن الأحوال أو أن تذهب في رحلة البحث عن الحقيقة بأنصاف متجاهلا مشاعرك حواسك وكل ما ترعرعت عليه، نعم الشك محمود وهو أفضل من أن تؤمن بمعتقد لمجرد انك ولدت فيه وربما لم تفكر ولو لبرهة أنه قد يكون خاطئ ، نعم الشك الذي تحدث عنه الرسول، عن أَبِي هرَيرة أَن رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم قال: "نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ "رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَىٰ وَلٰكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي"، وهل عاقب الله إبراهيم بهذا أو أنزله من مقام النبوة، لا بل برهن له وجوده، قد تتهمني بأنني خاطئ وأن جُل من في سني لا يعاني من الوسوسة الاعتقادية.

 

ربما لا تعلم أن معز مسعود الداعية والباحث في قسم الإلهيات بجامعة كمبريدج، قام باستفتاء شارك فيه أكثر من 7 آلاف شاب على صفحاته الشخصية في موقعي التواصل الاجتماعي فيس بوك وتويتر، كان مضمونه هل لديهم أسئلة حول حقيقة الوجود والدين يتحرّجون منها ويخافون من الخوض فيها ولا يستطيعون طرحها أمام الملأ، أو يعرفون شخصا لديه تلك التساؤلات والتخوفات، فكانت النتيجة أن 75 فالمئة من الشباب اعترفوا بنعم.

     

لم يعلموا أن قرار التدين كردة فعل قد يكون أسوء قرار تتخذه، فقلما تسلك به طريق الصواب، فهو مجرد شماعة تقذف إليها ذاك الحزن والملل الذي بداخلك

كيف لا يصيبني الشك ولقد اتخذ أبو حامد الغزالي أحد أعظم المفكرين والعلماء في تاريخ الاسلام والملقب بحجة الإسلام، الشك مذهباً، وبعد أن كان يُدرس الفقه وأصوله وسائر تعاليم الشريعة الإسلامية، وبقيَ في التدريس مدّة أربعة سنوات، حتى اشتُهر بين النّاس وصار مقصدًا لطلاب العلم من شتى البقاع الإسلامية، حيث قال الإمام أبو بكر بن العربي عنه "أيت الغزالي ببغداد يحضر درسه أربعمائة عمامة من أكابر الناس وأفاضلهم يأخذون عنه العلم"، وبعد كل هذا العلم انتابته الشكوك، ابتدأت بمرحلة الشكّ بشكل لا إرادي، والتي شكّ خلالها في الحواس والعقل وفي قدرتهما على تحصيل العلم اليقيني إلى الشك في الوجود وكل شيء فخرج الغزالي من بغداد سرًا تاركًا وراءه كل المناصب والجاه الذي حُصِل له.

 

خرج في رحلة مدّتها 10 سنوات قضاها بين القدس والخليل ودمشق والمدينة المنورة ومكة المكرمة يبحث عن إجابات لشكوكه، نعم يلا عظمة هذا الرجل ترك كل شيء طيبٍ في حياته من أجل تلك الرحلة، رحلة البحث عن الحقيقة. يقول الإمام أبو حامد الغزالي في ختام كتاب الميزان "لو لم يكن في مجاري هذه الكلمات إلا ما يشكك في اعتقادك الموروث لتنتدب للقلب وناهيك به نفعا إذ الشكوك هي الموصلة للحق فمن لم يشك لم ينظر ومن لم ينظر لم يبصر ومن لم يبصر بقي في العمى والضلال نعوذ بالله من ذلك".

 
ولدت في عائلة مسلمة عربية وكمعظم الاطفال مرت سنواتي الاولى بين حنان الوالدين تارة وقسوتهم و تعنيفهم تارة اعتقادا منهم أن في ذلك صلاحا لي، في بداية المراهقة كنت عاديا جدا، ذاك اليافع الذي اقصى طموحه التوفيق بين دراسته ورغبته في اللعب والخوض في مغامرات جديدة مع الأصدقاء، إلا أن هذا الحال لم يدم طويلا، لا أعلم كيف لكني أتذكر أن نفسيتي ذبلت فجأة وأصبت بشكلٍ من الاكتئاب وكردة فعل اتخذت الدين كمنقذ لهذه النفسية المحطمة، فبدأت بالصلاة والقرآن وتعلم الاذكار وانتهيت إلى الحضور في مجالس العلم الشرعي وجلباب مقصر مع الاحتفاظ بعود الارك والابتعاد عن الموسيقى واتخاد منهج التحريم كأصل.

      

لا تظلم كل من يشك أو يتساءل فلربما كانت عاقبته خير من ذاك الذي يدعي أنه يملك مفاتيح الحقيقة لمجرد أنه ولد فيها
لا تظلم كل من يشك أو يتساءل فلربما كانت عاقبته خير من ذاك الذي يدعي أنه يملك مفاتيح الحقيقة لمجرد أنه ولد فيها
 

كل الناس شجعتني حينها تنعتني بالشاب الصالح في كل فرصة فهي قلما تشاهد شابا في السادسة عشر من عمره يفعل كل هذا، للآسف لم يعلموا أن قرار التدين كردة فعل قد يكون أسوء قرار تتخذه، فقلما تسلك به طريق الصواب، فهو مجرد شماعة تقذف إليها ذاك الحزن والملل الذي بداخلك. لكن مع سقوط القدوات يسقط معها شغفك بهذه القدوات، هذا ما حصل معي في أحداث رابعة العدوية فقد كانت مواقف أغلبية الشيوخ حينها جبانة لا أتحدت عن تحديدهم لمواقفهم السياسة حينها بل أنوه إلى أن القليل فقط منهم من استنكر ازهاق كل تلك الأرواح، هنا تأكدت أنك لو اتبعت رجال الدين فقلما ستصل إلى الدين.

        
ومع مرور الأيام ازداد نضجي البدني والفكري بجانب استقرار الخطاب الديني على نفس الطريقة القديمة واهتمامه بالجانب التشريعي أكثر من ترسيخ العقيدة الصحيحة وظهور خيبات أمل وصدمات فيما يسمى بالإعجاز العلمي، ومع تراكم كل هذا توسع الفارق بين الأسئلة التي تحيك في الصدر والعقل وبين عدم وجود إجابات شافية لها، نعم تلك الأسئلة التي من المفروض أن تتوفر على إجاباتها لتحظى بالإيمان الحقيقي اليقيني وليس التقليدي الذي يتحطم في أسهل الاختبارات.

          

هل المادة هي كل ما في الوجود؟ هل الغيب خرافة؟ ألم تثبت الفيزياء الحديثة أن الكون وُجد من لا شيء بغير حاجة إلى إيجاد إله؟ ألم تقضِ تطورات علم الأعصاب على تصوّر أن للإنسان وجوداً بعد موته؟ هل هناك أدلة حقيقية، علمية، عقلية، على أن الكون وُجد بقدرة إلهية؟ لماذا كل صاحب دين يدعي أن دينه فقط هو الصحيح؟ فما الصحيح إذا؟. شتان بين من يؤمن بعد أن يجيب على هذه الأسئلة وبين من يخاف أن يسألها أو أن يخوض فيها، إن الحقيقة لا تُعرف بالتهرب منها أو اجتنابها بل بمواجهتها.

       
لا تظلم كل من يشك أو يتساءل فلربما كانت عاقبته خير من ذاك الذي يدعي أنه يملك مفاتيح الحقيقة لمجرد أنه ولد فيها، وربما كان مخلصا في شكه وبحثه، فعليك بما أوصى به الغزالي آخر حياته الإخلاص الإخلاص الإخلاص "قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلق".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.