شعار قسم مدونات

أزمة تديّنية لا دينية

Blogs- islam

إن محاولة الولوج إلى كنه أزماتنا وخلفيات تخلفنا لا بد لها أن تمر من دراسة منحنى الحضارة الاسلامية كيف بدأ وبماذا مرّ ثم أين وصل وبأية وسائل وأي ظروف لنصل إلى بدايات السقوط وفق أي معادلات وبأية وسائل وأي ظروف أيضا.. هي هكذا أغلبية منهجيات من درس مسار الحضارة الإسلامية وأسباب تخلف المسلمين وتقهقرهم، ونحن هنا لن نعيد هذا السرد التحليلي التاريخي لأنه معروف وكتبه كثير من المفكرين والنقاد والمصلحين أمثال: أبو الحسن الندوي، وشكيب أرسلان ومحمد الغزالي وغيرهم.. وإنما سنقوم بشرح قصور الأفكار والأسباب المنتشرة عند العامة وحتى عند بعض المثقفين في علاقة ابتعدنا عن الدين بمسألة التخلف.

 
لا شك أن للدين أهمية كبيرة في حياة أغلب شعوب المعمورة، بل إنه يعتبر أكبر مكونات الهوية لأي حضارة أو مدنية سواء كان ارتباط الشعوب به قويا أو ضعيفا، لأن التصنيفات الكبرى غالبا ما تبدأ من الدين -رغم أن هذا ليس صحيا- وتنتهي إليه والحضور الديني عند المسلمين يكتسي صبغة خاصة لاعتبارهم له دينا شاملا للدنيا والآخرة، للحياة وما بعدها. ولو لاحظتم أنني منذ البداية لم أشِر للدين بل للتديّن، لأنه وببساطة لا يمكنني أن أقول إن البعد عن الدين ليس هو سبب تخلفنا، كما لا أستطيع نفي أن سر تخلفنا في بعدنا عن الدين؟! ربما هنا تعقدت المسألة قليلا؟ لذلك سأشرحها بالتفصيل.
 
الدين يتكون من عقيدة (ملة) إضافة إلى شريعة وبالتالي فديننا الإسلامي إضافة لأنه يركز على عقيدة التوحيد والإيمان بخاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام، فإنه يركز أيضا على تنظيم أمور الحياة وأسباب سيادة المسلمين للعالم. وهنا يبرز الإشكال الحاصل بين مفهوم الدين كمنظومة شاملة للعقيدة ولأسباب التحكم في ما سُخِّر للإنسان والمسلم بشكل خاص وبين التديّن الذي يبقي الدين رهينا للأمور العبادية والطقسية فقط بما يقترب بالمسلم من الرهبنة أو الترهبن ولا يعير اهتماما بما يطلبه الله من المسلم من طلب العلم والإعلاء من شأن العمل وإتقانه والنهي عن الجور والفساد والطغيان وغيرها من القيم التي ترسّي دعائم الإنسان الذي يريده الله، لا الراهب الذي يريده الشيطان.
 

عندما نقول الرجوع للدين، فإننا يجب أن نقصد الرجوع لكل تعاليم الدين ومنظومته الأخلاقية والسلوكية لا الجانب العبادي فقط الذي يصبح مساويا للرهبنة التي تنشد الآخرة بترك الدنيا وإهمالها
عندما نقول الرجوع للدين، فإننا يجب أن نقصد الرجوع لكل تعاليم الدين ومنظومته الأخلاقية والسلوكية لا الجانب العبادي فقط الذي يصبح مساويا للرهبنة التي تنشد الآخرة بترك الدنيا وإهمالها
 

إن كثيرا من الناس اليوم يعتقدون أن رجوع المسلمين للمساجد أو ابتعادهم عن الكبائر وحدها من ستعيد لهم مجدهم وتحقق لهم رضى الله عنهم.. أبدا فهذا وهم كبير، إن الرجوع لتعاليم الدين لا التديّن الطقسي فحسب هو من سيعيد للناس فهمهم لما طلب الله منهم في قرآنه وسنة نبيّه الشريفة. بحيث يصبح معنى الرجوع للدين هو نفسه معنى إدراك المسلمين لأهمية العلم وطلبه والعمل وإتقانه، وتسالمهم على منظومة تعايش تكفل لكل حقه وتنفي التعسف من أي طرف تجاه أي طرف آخر، وتستعيد العمل بالقيم الأخلاقية السمحة التي ابتعد عنها المسلمون بل واقترفوا مناقضاتها، أما الفهم القاصر للدّين بأنه فقط صلاة وصيام وحج وزكاة، وتقصير ثوب وإطلاق لحية واعتكاف بالمساجد، ثم طلب العون من الله والاعتقاد بأن هذا سيحقق لهم النهضة؟ دون مصاحبة كل ذلك بعمل متقن وعلم رصين وأخلاق حميدة وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر فإننا بذلك سنبقى ندور في حلقة مفرغة لا خروج منها بمثل هكذا أفهام وعقول.
 
عندما نقول الرجوع للدين فإننا يجب أن نقصد الرجوع لكل تعاليم الدين ومنظومته الأخلاقية والسلوكية لا الجانب العبادي فقط الذي يصبح مساويا للرهبنة التي تنشد الآخرة بترك الدنيا وإهمالها، فالمسلم الحق لا يضيع دينه لأجل دنياه، ولكنه أيضا وبنفس الأهمية لا يضيع دنياه بفهم خاطئ لينال الآخرة، ثم لا ينالهما معا.

 
أما من استطاع الانعتاق من أسر إشكالية البعد عن التدين وعلاقته بالتخلف فقد حقق الخطوة الأولى للفهم، فمن اتخذ الأسباب حقق النتائج والغرب الذي يعتبر بالكفر والإلحاد أفضل مثال، ونحن هنا لا نلغي مسألة توفيق الله للمؤمن حتى يحقق النجاح، ولا ندعو أيضا لمقولة الدين أفيون الشعوب ولكن نربط الأسباب بالمسببات وننزع عن الإفهام تلك الخرافات لأن الله لا ينصر المؤمن المتقاعس أو النائم المتكاسل، التدين الحق هو التدين الإيجابي لا التدين المغشوش كما قال الإمام الغزالي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.