شعار قسم مدونات

حماس في فخ الإنكار والتقويض

Head of Hamas delegation Saleh Arouri and Fatah leader Azzam Ahmad sign a reconciliation deal in Cairo, Egypt, October 12, 2017. REUTERS/Amr Abdallah Dalsh TPX IMAGES OF THE DAY

تنجح المصالحة، تفشل المصالحة، حوار يطول بين البعض فهل الموضوع بهذه البساطة؟ 
ابتداء، إن المصالحة مطلب فلسطيني وطني لا يتعارض اثنين على ضرورتها. لكن هذه المصالحة المنشودة يتقابل تحتها استراتيجيتان، الأولى استراتيجية السلام مع إسرائيل ضمن اتفاقية أوسلو التي تجعل من السلطة الفلسطينية حارسا أمنيا لإسرائيل. ولقد قبلت حركة فتح أن تسير في هذا المسار وتلبست قيادات فتح السلطة الفلسطينية لتكون هي الصورة الظاهرة التي تمارس وتطبق من خلالها هذه الاستراتيجية. وحقيقة الأمر أن قيادات فتح الرئيسية هي نفسها القيادة الفاعلة في السلطة، ومن الطبيعي ألا تنطلي هذه الحيلة المكشوفة على الشعب الفلسطيني. وبالمفهوم الاستراتيجي فإن فتح قد انقلبت على استراتيجيتها التاريخية وتبنت استراتيجية أوسلو المعاكسة لتاريخها النضالي.

 

وفي المقابل هناك استراتيجية متعارضة مع استراتيجية أوسلو وهي استراتيجية المقاومة التي تبنتها حماس. وهي استراتيجية ترفض اتفاقية أوسلو وتصر على المقاومة كطريق أساس لتحرير فلسطين. غذا هناك استراتيجيتان متناقضتان كلية في الجوهر تحاولان إنشاء ما يعرف بالمصالحة والتي لم تفلح على أرض الواقع مع كل المحاولات السابقة لتحقيقها، وهذا أمر مفهوم لأن الصراع ليس بين فكرتين متقاربتين أو بين تكتيكين متشابهين، ولكن بين فكرتين متعاكستين تماما شكلتا هذا الانقسام الجذري العميق في التركيبة السياسية الفلسطينية.

 

وتطالعنا الأخبار باتفاقية مصالحة أخرى تم تطويرها في القاهرة في الأشهر السابقة. وهنا لابد من وقفة بكل موضوعية لنتحسس الحاضر ولنسهل على أنفسنا توقع شيء من المستقبل حتى لا يبقى المراقب والسامع في دوامة المصالحة. لقد قبلت فتح لنفسها الانقلاب على تاريخها النضالي ومضت في اتفاقية أوسلو بكل تفاصيلها وعمقها وما زالت تتعاطى التفاصيل والفشل تلو الفشل في المفاوضات غير المنتهية ودون نتيجة تذكر على المستوى الوطني، لكن كل ما تقوم به منسجم مع قبولها بهذه الاستراتيجية المخالفة لتاريخها وأصل انطلاقتها. بالتالي فإن فتح تبدو من المنظور الاستراتيجي منسجمة مع أوسلو وما نشأ عنها بغض النظر عن صوابية هذا الانقلاب على أصل توجهها من عدمه، ما يعنينا من الناحية التحليلية أنها تقوم بتكتيكات تدور في صلب استراتيجيتها المنسجمة مع أوسلو، أي أن التكتيك يتوافق مع الاستراتيجية.
 

تتطور الأحداث في عام2007 تسيطر على حكم القطاع لأسباب من الممكن أنها موضوعية لكن حماس تمسكت بالسلطة ظانة أنها ستحقق لها مكاسب تكتيكية سريعة وبعض المكاسب الاستراتيجية المتوقعة
تتطور الأحداث في عام2007 تسيطر على حكم القطاع لأسباب من الممكن أنها موضوعية لكن حماس تمسكت بالسلطة ظانة أنها ستحقق لها مكاسب تكتيكية سريعة وبعض المكاسب الاستراتيجية المتوقعة
 

فيما حماس شاركت في انتخابات المجلس التشريعي عام 2006 من أجل الفوز بأغلبية مقاعد المجلس التشريعي لكن تبقى في إطار أوسلو. وكانت النتيجة فوز حماس بأغلبية مقاعد المجلس التشريعي بدعم شعبي وتحت إشراف دولي كثيف، أي أنها فازت بكل جدارة، وهنا بداية التعثر الاستراتيجي لها. كانت الانتخابات مناورة تكتيكية لحماس انتهت بفوزها ولكن قيادتها غضت النظر عن أن هذه المناورة هي للفوز بقيادة مركب صنعته أوسلو. فكيف ستبحر عكس التيار باستراتيجية مقاومة في هذا المركب المصمم والمصنع في ورشة أوسلو.

 
من أسس التنفيذ الاستراتيجي أن تتناغم التكتيكات مع الاستراتيجية لتحقيق جوهرها، لكن حماس وقعت في فخ استراتيجي وهو فخ تقويض التكتيك لجوهر الاستراتيجية، بمعنى أن قيادة حماس لم ترغب برؤية عواقب المشاركة في الانتخابات وظنت أن هذا التكتيك سيعطيها بعدا جديدا. وأنًى لمركب أوسلو أن يوصلها لمرادها! ودخلت قيادة حماس في فخ آخر وهو فخ الإنكار، إنكار حقيقة أن أصحاب هذا المركب لن يسمحوا لها بقيادته حتى ولو جاءت بتفويض شعبي، وإنكار أن الإبحار بمركب أوسلو لن يتوافق مع استراتيجية المقاومة. 

 
تتطور الأحداث في عام 2007 وتحسم حماس الأمر في غزة وتسيطر على حكم القطاع بمناورة جريئة أخرى ولأسباب من الممكن أنها موضوعية ولكن حماس تمسكت بالسلطة وعضت عليها بالنواجذ ظانة أن هذه المناورة ستحقق لها مكاسب تكتيكية سريعة وبعض المكاسب الاستراتيجية المتوقعة. وتقع حماس للمرة الثالثة في فخ تقويض التكتيك للاستراتيجية وفخ إنكار التبعات المستقبلية، ودخلت في دوامة الحكم ولم تصمم لنفسها استراتيجية مخرج. ونسيت أنها بهذه الخطوة تكون قد تحولت من حركة مقاومة لا تمسك أرضا إلى حكم القطاع ومسك الأرض. وهذه لحظة تحول استراتيجي جذري من حركة مقاومة إلى سلطة محلية تمتلك أرضا وبالتالي أوقعت نفسها في فخ المحافظة على الأرض والحدود، فالتقطها الإسرائيلي بسرعة وفرض حصارا ظالما بالتعاون مع الجوار الإقليمي. ثم اتبعها بشن حروبه عام 2008/2009 ثم حرب 2012 ثم حرب 2014.

 

صحيح أن الإسرائيلي لم يحقق أهدافا عسكرية معتبرة، ولكنه حقق تدميرا كبيرا في البنى التحتية، وتضررت آلاف المنازل، وكذلك تمت محاصرة التموضع الاستراتيجي لحماس والدفع به نحو التدهور. إن الهدف الاستراتيجي للحصار الخانق وتجفيف المنابع المالية هو تقليل فرص وإمكانات العمل والتطور لحد الخنق ويقابل ذلك كثرة في الموارد البشرية التي لا تجد فرصا للعمل، مما يضطر المُحاصَر لخلق وظائف لكسب رضا الناس، ولكنه في نفس الوقت ينهك ميزانيته فيزداد غرقا على غرق.

 

فرضية السير باتجاه مصالحة وطنية بكل براءة وترك التطورات تحدد المستقبل لهو في التحليل الاستراتيجي إعلان لضعف التحكم في المسار، وفقدان التصور الاستراتيجي
فرضية السير باتجاه مصالحة وطنية بكل براءة وترك التطورات تحدد المستقبل لهو في التحليل الاستراتيجي إعلان لضعف التحكم في المسار، وفقدان التصور الاستراتيجي
 

وظل أهل غزة يقاومون هذا الحصار اللاإنساني غير المسبوق سنين طويلة، إلى أن اشتدت ضراوته بعد انقلاب مصر عام 2013، وأصبحت حماس من الناحية الاستراتيجية تتموضع على موضعين مختلفين. التموضع الأول وهو التموضع الناتج عن السمعة -سمعة المقاومة والصمود- وهو تموضع متقدم ولكنه خادع. والثاني التموضع الحقيقي القائم على الإمكانات الحقيقية. وظلت الفجوة بين التموضعين تزداد نتيجة شح الموارد والحصار في محاولة لدفع حماس في ثقب أسود باتجاه نقطة اللاعودة. لم تستطع حماس استيعاب الانزلاق في التموضع الاستراتيجي لها وظلت تناور في أمر المصالحة إلى أن جاءت ساعة الحقيقة. الساعة التي لم ترد حماس أن تنظر إليها في الماضي وعاشت فترة الإنكار معتقدة أن التكتيك قصير المدى، وردّات الفعل، والإدارة يوما بيوم وشهرا بشهر ستجد لها مخرجا. 

 

إن تبني استراتيجية المخرج تعني أن يعاد النظر في الاستراتيجية الحالية، وأن يعاد ترتيب الأولويات، ثم يتم تبني تكتيكات تتلاءم مع التوجه الجديد

ما يحصل الآن هو أن تكتيك فتح في المصالحة ينسجم مع استراتيجيتها المنقلبة على تاريخها النضالي، بينما تندفع حماس نحو المصالحة مع سلطة أوسلو كتكتيك يقوض استراتيجيتها. تستطيع حماس أن تتخذ لها استراتيجية مخرج من مأزق الحكم في غزة وهذا منطق مفهوم، لكن لا تستطيع أن تسير في استراتيجية مخرج دون أن تحسب النتائج والعواقب المترتبة على ذلك. فالمخرج من ورطة حكم غزة الذي دام لعشر سنوات تقريبا لا يكون بهذه البساطة، ولن يكون بدون ثمن سيدفع، ولا بهذه السهولة من خلال الفرضيات التي تُفرض والتوقعات التي تُتمنى.إن فرضية التحول لحالة شبيه بحالة حزب الله في لبنان، فرضية مهزوزة منذ اللحظة الأولى فلا حماس يجاورها دولة حليفة كما تجاور سوريا لبنان، ولا يوجد دولة إقليمية كإيران تدفع ثمنا كبيرا لاستمرار حزب الله ليس كحليف لها بل كمكون رئيسي في المنظومة الجيوستراتيجية الإيرانية.

 

وفرضية السير باتجاه مصالحة وطنية بكل براءة وترك التطورات تحدد المستقبل لهو في التحليل الاستراتيجي إعلان لضعف التحكم في المسار، وفقدان التصور الاستراتيجي، والاستسلام لظروف البيئة الخارجية وتقلباتها، وتخلص من كتلة من الموارد البشرية تكونت على شكل موظفين للتخلص من عبئهم المالي، وتصريح بطلب مخرج بأي ثمن (وإن كان الإعلان دائما بالمحافظة على خط المقاومة). كما أن فرضية أن اتفاقية القاهرة ستحمي المقاومة ولا تمس سلاحها لهو فرض من أجل اقناع النفس باستمرار غض النظر عن العواقب، فلا الفصائل لها حضور فاعل معتبر ولا هي قادرة على المحافظة على وجودها أصلا، ولا مصر محترقة على المقاومة لتكون هي الضامن. إن تبني استراتيجية المخرج تعني أن يعاد النظر في الاستراتيجية الحالية بكل وضوح وجرأه، وأن يعاد ترتيب الأولويات وتحديد الخيارات الاستراتيجية بناء على ذلك، ثم يتم تبني تكتيكات تتلاءم مع التوجه الجديد، وكل ذلك في إطار المؤسسية. 

 
إن الصدام بين استراتيجيتين متعاكستين يقود إلى احتمالين. الأول أن تتنازل إحداهما عن استراتيجيتها للأخرى، والظاهر هنا أن حماس هي التي تتنازل وتتخلى عن السلطة والمعابر واللجنة المحلية وغيرها، وبالتالي فهي المرشحة للتنازل في نهاية المطاف عن مبادئها والتحول لحزب سياسي. أم الاحتمال الثاني وهو في حالة رفض حماس التنازل عن سلاح المقاومة (وهو المشهد الختامي المطلوب للمصالحة)، واستمرارها غض النظر عن العواقب المستقبلية والثمن المطلوب وتبسيط الأمر، وأن تضع نفسها مرة أخرى في حالة إنكار وأنها ستسير في المصالحة وفي نفس الوقت تقنع نفسها وأنصارها بأنها لن تتنازل عن سلاح المقاومة، فإذا كان الأمر كذلك فالاقتتال الداخلي سيصبح وشيكا وما خبر العراق وسورية واليمن وليبيا عن غزة ببعيد. عموما فإنه من المتوقع أن كلا الاحتمالين يعني في نهاية المطاف التسارع نحو نهاية دورة حياة استمرت لأكثر من ثلاثين عاما، وهو في عمر الحركات طويل وجهد ضخم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.