لكنه عالم التّغني بتماثيل العدل والمساواة والحريّة والإنسانية بينما لا يجد حرجا في أن يترعرع على هذه الأصنام متى جاعت أنانية إنسانه البدين التي يكفر بالمثاليات ويؤمن بالمصلحة وإعادة إنتاجها وتسويقها وتصويرها بشكل مختلف تماماً يحمل طابعاً أخلاقياً كأي مُنتج يجد طريقاً إلى السوق وفِي الوقت ذاته لا يفوت فرصة قذف النحيل الهزيل بالكفر بها والرِّدة عن نظمها.
يبدو التقارب بين الصهيونية و"أعداء اليهود" على أساس وحدة الأهداف المشتركة والتقائها جملة اعتراضية في سياق تقرير الحقيقة الكامنة خلف هذه الوعد، لكنها مفارقة تستقي وجودها من قيمة هذه الأهداف التي يسعى إليها هذان التياران، وقبل أن نقرر هذه الحقيقة ونقف على أركانها لا بد من إعطاء تعريف آخر لـ"أعداء اليهود" ليتسنى ذلك، فإذا ما سلّمنا أن الغرب وعلى رأسهم بريطانيا يتخذون موقفا تاريخيا سلبياً من الجماعات اليهودية في أوروبا في ظل ما كان يسمى في حينه "المسألة اليهودية"، واعتباراليهود شعبا عضويا واحدا لا ينتمي إلى حضارته ومكوناتها.
بل ويضيف تكلفة سياسية واجتماعية على كاهله، ويرى بداً من أن يجد له طريقاً إلى مكان آخر يحتوى هذه التكلفة والعبء اليهودي على الحياة العامة الغربية وربما منعاً من صدام مؤكد دائماً بين اليهود من جهة والعنصريين والنازيين من جهة أخرى الذين يَرَوْن ضرورة طرد اليهود بالقوة من مجتمعاتهم، وهو ربما شيء يدعو لأن تفخر رئيسة الوزراء الحالية "تيريزا ماي" بمنح وطن قومي لليهود في فلسطين وهو ما يشبه طوَّق النجاة لها وللغربيين من خلفها ولليهود أنفسهم من أن تتكرر أعمال الإبادة بحقهم أو ما يسمى في سياق العامية "ابتعد عني حتى لا أبتلى بك".
وهذا يتفق مع الرؤية الصهيونية من حيث هدفها بالدفع باليهود للهجرة إلى فلسطين والاستيطان بهما مدججين بأيديولوجيا دينية حلولية وعسكرية وأمنية متطرفة، وهذا يبدو تقارباً وضحاً في الأهداف المشتركة ولذلك يبدو وجود بريطانيا المنفرد في مربع الاستهداف المباشر عند الحديث عن وعد بلفور متماسكاً ومتجذرا في الوعي العربي عموماً، كون أنها تتحمل المسؤولية المباشرة عن بناء وتغوير مركوزات التواجد الصهيوني في فلسطين، لكن ذلك لا يشيح مسؤولية الشركاء الغربيين الآخرين عن هذه الجريمة ومساندة تبعاتها مادياً ومعنوياً.
ومن جانب آخر، يبدو فيه الطرفان -الصهيونية والغرب- في نفس خانة العداء لليهود من حيث جمعهم في بؤرة ليس فيها ما يربطهم بها من لغة أو حضارة أو تاريخ، ناهيك أنهم لم يملكوا أداة الثورة يوماً وإنما اكتسبوها بفعل ما عملت فيهم أداة القتل والاضطهاد والتشريد التي عرضتهم للنفي والتشتت أكثر من مرة، ولذلك هم جماعات مرعوبة ومهتزة ما تلبث أن تمنع نفسها بالجدر والأطواق وهي حقيقة وحتمية لازمت الجنس اليهودي عبر التاريخ وكونته بهذه الصيغة التي لا يحسّن فيها الاجتماع وإنما يحسّن فيها الشتات، فتبدو وكأن الصهيونية والغرب أخذوا بيد اليهود إلى تيهٍ ومقتلة أخرى.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.