شعار قسم مدونات

وعد بلفور… الأصنام إذ تؤكل

blogs - يهود
كبيرٌ كان هذا العنوان عندما كان يمر بعقولنا وأفهامنا المستيقظة إلى الحياة تواً، لم نكن على إحاطة بعناوين السياسة الرائجة ولا فضل النقاشات والحوارت الحادثة عنها، ثمة شيء شعوري يطغى ويقيل كل هذا المشهد؛ عيون صغيرة يرهقها امتداد الحدود التي تبدأ من اللامكان والتي لا تنتهي في أي مكان، تُحمّسها قصيدة لدرويش أو تترقرق بتنهيدة لسميح قاسم أو يثير فيها درس المطالعة التماعاً عند الحديث عن يافا وعكا وحيفا، عروسات المتوسط، فيستقل المخيال مركب صياد من شواطئ غزة ليتحمّل عناء الوصل إلى هناك، إلى شواطئ تبدو سائحة في غمرة ضباب كثيف فيوقفه الحد عند عسقلان حيث يتوقف المخيال عن نسج الصورة لا اكتفاء ولكن عجزاً.

 شعور الذات هذا لا تمنحه الأبجديات السطحية والبالية، شعور الاحتلال والظلم والتطويق يسري مسرى الدم في العروق، تماما كما هو شعور الحرية لدى الطفل البريطاني أو الأمريكي الذي لا يهمه أن يبحث عن حقيقة هذه القيمة ومعناها بقدر ما هي ماثلة أمامه في حياته اليومية الطبيعية، معنى أن لا يعير اهتماماً لهذه الحدود، معنى أن لا يوقفه جواز السفر، معنى أن لا ُيذل بفعل نقيصة لم يرتكبها هو، ومعنى ما افتعله وعد بلفور هو واقع في حياة الفلسطيني من قتلٍ وأسرٍ ومصادرةٍ وهدٍم و حواجز وحصار تصبغ أحلامه وتطلعاته وآماله وهي ذكرى تتكرر بشكل يومي ومستمر.
وبين أن يكون الوعد ممنوحاً لأجل الخير وتحقيق غاية ومثل نبيلة ومحمودة، وأن يكون الوعد ممنوحاً لأجل الشر وتحقيق غاية سفلى تُسلب فيها الحقوق من مُستحقّيها وتُوهب لآخرين لا يحق لهم حتى تمني تحصيلها، هناك اتساع يقاس من القيم والنظم الأخلاقية والإنسانية الكائنة فيه داستها وتجاوزتها بريطانيا بإصدارها الوعد على أنه عطف وتحنن تجاه ما أصبح بحبر قلم بلفور شعب يهودياً عضوياً متجذراً بأرض وتاريخ فلسطين، تخلّق فجأة أو هطل من السماء أو انشقت الأرض وقذفته إلى سطحها، بينما تُبْطن هذه الأخلاق والروح السامية المزيفة، ظلماً وغدراً لا يقف عند كونه جريمة بحق أحد ما يمكن أن يفقد حقه بالتقادم أو بفنائه، بل كون من أصدره لا يملك الحق في أن يضطلع بمسؤولية أمة هي أحق بأن تقرر وجودها ومصيرها في بقعة محددة من الأرض وفِي نقطة شاخصة من التاريخ الإنساني الحديث.

لكنه عالم التّغني بتماثيل العدل والمساواة والحريّة والإنسانية بينما لا يجد حرجا في أن يترعرع على هذه الأصنام متى جاعت أنانية إنسانه البدين التي يكفر بالمثاليات ويؤمن بالمصلحة وإعادة إنتاجها وتسويقها وتصويرها بشكل مختلف تماماً يحمل طابعاً أخلاقياً كأي مُنتج يجد طريقاً إلى السوق وفِي الوقت ذاته لا يفوت فرصة قذف النحيل الهزيل بالكفر بها والرِّدة عن نظمها.

اليهود لم يملكوا أداة الثورة يوماً وإنما اكتسبوها بفعل ما عملت فيهم أداة القتل والاضطهاد والتشريد التي عرضتهم للنفي والتشتت أكثر من مرة
اليهود لم يملكوا أداة الثورة يوماً وإنما اكتسبوها بفعل ما عملت فيهم أداة القتل والاضطهاد والتشريد التي عرضتهم للنفي والتشتت أكثر من مرة
 
الصهيونية وأعداء اليهود

يبدو التقارب بين الصهيونية و"أعداء اليهود" على أساس وحدة الأهداف المشتركة والتقائها جملة اعتراضية في سياق تقرير الحقيقة الكامنة خلف هذه الوعد، لكنها مفارقة تستقي وجودها من قيمة هذه الأهداف التي يسعى إليها هذان التياران، وقبل أن نقرر هذه الحقيقة ونقف على أركانها لا بد من إعطاء تعريف آخر لـ"أعداء اليهود" ليتسنى ذلك، فإذا ما سلّمنا أن الغرب وعلى رأسهم بريطانيا يتخذون موقفا تاريخيا سلبياً من الجماعات اليهودية في أوروبا في ظل ما كان يسمى في حينه "المسألة اليهودية"، واعتباراليهود شعبا عضويا واحدا لا ينتمي إلى حضارته ومكوناتها.

بل ويضيف تكلفة سياسية واجتماعية على كاهله، ويرى بداً من أن يجد له طريقاً إلى مكان آخر يحتوى هذه التكلفة والعبء اليهودي على الحياة العامة الغربية وربما منعاً من صدام مؤكد دائماً بين اليهود من جهة والعنصريين والنازيين من جهة أخرى الذين يَرَوْن ضرورة طرد اليهود بالقوة من مجتمعاتهم، وهو ربما شيء يدعو لأن تفخر رئيسة الوزراء الحالية "تيريزا ماي" بمنح وطن قومي لليهود في فلسطين وهو ما يشبه طوَّق النجاة لها وللغربيين من خلفها ولليهود أنفسهم من أن تتكرر أعمال الإبادة بحقهم أو ما يسمى في سياق العامية "ابتعد عني حتى لا أبتلى بك".

وهذا يتفق مع الرؤية الصهيونية من حيث هدفها بالدفع باليهود للهجرة إلى فلسطين والاستيطان بهما مدججين بأيديولوجيا دينية حلولية وعسكرية وأمنية متطرفة، وهذا يبدو تقارباً وضحاً في الأهداف المشتركة ولذلك يبدو وجود بريطانيا المنفرد في مربع الاستهداف المباشر عند الحديث عن وعد بلفور متماسكاً ومتجذرا في الوعي العربي عموماً، كون أنها تتحمل المسؤولية المباشرة عن بناء وتغوير مركوزات التواجد الصهيوني في فلسطين، لكن ذلك لا يشيح مسؤولية الشركاء الغربيين الآخرين عن هذه الجريمة ومساندة تبعاتها مادياً ومعنوياً.

ومن جانب آخر، يبدو فيه الطرفان -الصهيونية والغرب- في نفس خانة العداء لليهود من حيث جمعهم في بؤرة ليس فيها ما يربطهم بها من لغة أو حضارة أو تاريخ، ناهيك أنهم لم يملكوا أداة الثورة يوماً وإنما اكتسبوها بفعل ما عملت فيهم أداة القتل والاضطهاد والتشريد التي عرضتهم للنفي والتشتت أكثر من مرة، ولذلك هم جماعات مرعوبة ومهتزة ما تلبث أن تمنع نفسها بالجدر والأطواق وهي حقيقة وحتمية لازمت الجنس اليهودي عبر التاريخ وكونته بهذه الصيغة التي لا يحسّن فيها الاجتماع وإنما يحسّن فيها الشتات، فتبدو وكأن الصهيونية والغرب أخذوا بيد اليهود إلى تيهٍ ومقتلة أخرى.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.