شعار قسم مدونات

مئة عام من رفض العزلة

blogs وعد بلفور

في صندوق خشبيٍّ قديم كانت تُخبّأ أوراقٌ غيّر العمرُ لونها وهيئتها، أوراقٌ لا يُسمَحُ لأحدٍ من الأبناء أو الأحفاد العبث بها، وكأنّ جدّي يحتفظُ من خلالها بخارطةِ كنزٍ قديم أو حلٍّ لشيء من أسرار الكون. توفي جدّي رحمه الله، وانتقلت الأوراق لجدّتي التي كانت تعاملها كحِرزٍ ثمينٍ لا تُريدُ لأحدٍ أن يأخذهُ أبداً. مع الأيام أدركتُ أنّ مثل هذا الصندوق موجودٌ في كلِّ بيتٍ لفلسطينيٍّ هُجِّرَ مِن أرضه، هذه الأوراق المائلة إلى الصفرةِ موجودةٌ مع كلٍّ من أجدادنا وآبائنا، مواثيقَ بأنّ الأرض لنا حتى وإن كذبت كتب التاريخ أو استنكرت كلّ المواثيق، كانت تلك الأوراق مروّسة باسم فلسطين، تُثبتُ أن هذه القطعة من الأرض المباركة تعودُ لفلانَ العربيّ الفلسطيني، وتلك القطعة لذاك الرجل، وهكذا. كانت تلك الأوراق كما يسميها أهل فلسطين "كواشين" أو "طابو" أي أوراق ثبوتية لملكية الأرض.

"لماذا تركتم فلسطين؟" لطالما رددتُ السؤال بحرقةِ شوقٍ ولوعةِ وجع أن ما الذي يملك أن يحرمني من حقّ العودة والزيارة والوجود في أرضٍ ولد فيها أبي وعاش فيها أجدادي وأؤمن بها عقيدةً بقرآني وكتابي؟ كان الجواب مشتركاً بين جميع المُجيبين: "خرجنا أياماً ليُحلَّ بها الأمرُ ونعود"، ويتبع هذا الجواب قصصاً وحكايا عن مفتاح وُضِعَ جانب الباب ليستخدمه من يعود أولاً، وللمتاع الذي تُرك، ولفلانٍ المريض الذي أودعوه في البيت مع أشيائه إذ أن الأهل بضع أيامٍ وسيعودون، وإلى غير ذلك من القصص التي سمعناها وحفظناها وكررناها تُنبئ عن وجعٍ أشدَ من وجع السؤال نفسه، فهل من حقيقةٍ أشدّ وجعاً من أن الشعبَ تعرّض لمسرحية خادعةٍ أخرجته من بيته ليأخذ غيره هذا البيت فيستوطنه؟

مات بلفور لكن الوعد ماضٍ مُنفّذ ومُحاطٌ باتفاقيات كثيرة تُثبته وتؤيده، وبقينا بعزلتنا نخرجُ بمثل هذا اليوم من كل عام نندد ونستنكر ونرفض ونحزن
مات بلفور لكن الوعد ماضٍ مُنفّذ ومُحاطٌ باتفاقيات كثيرة تُثبته وتؤيده، وبقينا بعزلتنا نخرجُ بمثل هذا اليوم من كل عام نندد ونستنكر ونرفض ونحزن
 

كيف يحوي الكونُ هذا القدر من الظلم؟ أن يأتي شخصٌ لا مُلكُ له في أرضٍ ما، فيهدي هذه الأرض لشخصٍ آخر لا علاقةُ له في هذي الأرض أيضاً، ثم يأتي كلاهما فيُخرجان صاحبَ الأرض منها إما خدعةً أو عنوة، وتمرُّ سنين وصاحب الأرض خارجَ أرضه يحلم بالعودة، وصاحب الإهداء يحاول إرضاءه بشيء من كلمات، وأما من أخذ الأرض فتملكّها واستثمرها وتاجر فيها بل وأصبحَ كالوحشِ الذي يحاول أن يحمي فريسته! مئة عامٍ من الظلمِ والظلمات، مئة عامٍ على وعدٍ تمّ تنفيذه من غير وجهِ حقٍّ أو منطق. مئة عامٍ ووعد بلفور مُطبّق بأكثرَ ممّا كان من المتوقع له أن يكون.

يحضرني في هذا السياق رواية الكاتب غبرييل غارثيا الشهيرة بعنوان "مئة عامٍ من العزلة"، وأذهب بالتفكير طويلاً إن كنا شُعوباً نعيش منذ مئة عامٍ بل أكثر في عزلة، إن كنا شعوباً نعرف من الأشياء ما يراد لنا أن نعرف، ومن السياسيات ما يراد لها أن يُعلن، ومن الخفايا ما يُراد لها أن يُفضح. وربما لأنني لا أحب نفَسَ نظريات المؤامرة ولأنّني أوقن إيماناً لا أشك فيه بأن هذه الأرض المقدسة تحديداً هي ميزان صلاح الأمة من عدمه؛ فإنّي مُذ حضرني خاطر هذه الرواية وجدتُ أننا في عزلةٍ حقًا، لكنها عزلة عن أنفسنا وقضايانا. أنظرُ في جيل يعرف اسم القدس ويحبّها، يعرف قضيته الفلسطينية وعدلها، يعرف حقّ المُهجّر من أرضه في العودة، لكنّ لا يعرف أكثر من ذلك، معزول هو عن قضاياه، لا يعرف عنها تاريخاً ولا حقائق ولا معلومات، لا يعرف حتى إن كان هناك طريق للعودة حقاً أم لا.

لم تكن مشكلتنا في وعود وتصريحات نُفِذَت فحسب، لكنّ مشكلتنا الحقيقية كان فينا نحن، في العزلة التي اخترناها ورضيناها. كانت مشكلتنا بأن الغزو والاعتداء على أرضنا لم يكن عسكرياً جُغرافياً فحسب، لكنّه كان غزواً على الفكر والإنسان، كان اعتداءً على الجوهر الذي في داخلنا. فماذا مثلاً لو تمّ تعطيل العمل بوعد بلفور اليوم، وعادت الأرض لأهلها، وخرج مغتصبها منها؛ هل يملكُ الإنسان العربيّ اليوم أن يستثمرها وينهض بها؟ واقعُ الجيل يُنبئ جيداً بأنّنا خسرنا كثيراً ممّا يُنهِضُ الأمم. أن نحيى مئة عامٍ من العزلة عن مشاكلنا أمرٌ خطير، لكنّ الأشد خطورةَ منه أن العزلة في داخلنا تعودُ مئات سنين لا مئة واحدةً فحسب.

سلامٌ على أرواح أجدادنا، وعلى أوراق الكوشان والطابو، سلامُ عهدٍ بأن هذه القضية قضيتنا، وهذا الحق حقنا، وهذه العزلة سنملكُ أن نخرج منها أو نعيدَ بناء حضارتنا

يقال: "إذا أردتَ أن تهدم حضارة أمةٍ فعليك بهدم ثلاث: الأسرة، والتعليم، والقدوات". وكلما سمعتُ هذا القول التفتُّ سريعاً إلينا، لبيوتنا التي يُعاني فيها كلّ منّا عزلةً مع نفسه، لجيل الأمهات اللائي يُحاول أن يُمحى منهنّ قيمة الأمومة والتربية، للقدر الكبير من الخيانات والتفكك. لتعليمنا الموجع الذي بتنا فيه أمام خيارين أحلاهما مرّ؛ إمّا أن ترضى بأنظمةٍ تدريسية وطنية فيها كمُّ من التلقين والصعوبات والتعقيدات، أو أن تختار نظام تدريس دوليّ وترضى بما فيه من التبعات. لمفهوم القدوة الذي تمّ تشويهه، وأتساءل في ذلك كله: إن خسرنا البيت، واختفى دور المعلم المربّي، وتاه منّا مفهوم القدوة الحقيقي، فمن الذي ينشئ الأجيال؟ مَن الذي يغرس فينا ما يمنحنا القدرة على البناء إن انتهت عزلتنا؟

منح بلفور باسم الحكومة البريطانية في عام 1917 أي قبل مئة عامٍ من اليوم أرضَ فلسطين لليهود ليقيموا عليها وطناً قومياً لهم، مات بلفور لكن الوعد ماضٍ مُنفّذ مُحاطٌ بمواثيق من بعده واتفاقيات كثيرة تُثبته وتؤيده. مات بلفور وبقينا في عزلتنا نخرجُ في مثل هذا اليوم من كل عام نندد ونستنكر ونرفض ونحزن وما إلى ذلك من المشاعر المحمودة التي لا نريد لها أن تموت ولا أن تختفي، لكننا نريد لها أن تُرينا العالم القابع خارج عزلتنا، نريد لهذه الحرقة التي نملكها شوقاً وإيماناً بالحق الفلسطيني أن تحرّك فينا جذوة التغيير، جذوة الانتباه إلى أن الأمر بحاجةٍ لسواعد تبني وتربّي. فالغزو الذي اعتدى على الإنسان قبل الأوطان لا بد من مواجهته ببناء إنسانٍ يُعيد هذه الأوطان.

أتذكر اليوم الرواية بتفاصيلها وأنظر لروايتنا بكلِّ ما فيها وأتمتم في نفسيةً أمنيةً بأن: ليتها مئة عامٍ من رفض العزلة، لا من العزلة. سلامٌ على أرواح أجدادنا، وعلى أوراق الكوشان والطابو، سلامُ عهدٍ بأن هذه القضية قضيتنا، وهذا الحق حقنا، وهذه العزلة سنملكُ أن نخرج منها أو نعيدَ بناء حضارتنا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.