شعار قسم مدونات

"دِيجَا فُو".. عندما تخدعنا عقولنا

blogs فيلم ديجا فو
يُحدّثنا تشارلز ديكنز في روايته (ديفيد كوبرفيلد) عن هذا الأمر عندما يقول: "إنه لإحساس مخيف ذلك الذي يزورنا في بعض الأحيان؛ ليُخبرنا بأن ما نقوله أو نفعله الآن؛ هو تماما ما قلناه وفعلناه سابقا؛ ذاتها الوجوه التي كنّا مُحاطِين بها منذ زمن بعيد تحاصرنا اليوم".

إنها الـ ديجا فو (Déjà vu)* تلك الحالة الذهنية التي نتعرض لها عندما نتوهم بأن الحدث الذي نعيشه الآن هو تماما ما عِشناه سابقا؛ فيُخيَّل إلينا أننا نتذكر وقائعه بتَفَاصيلها؛ ونعيش اللحظة للمرة الثانية؛ دون أن نعرف أين ومتى كان ذلك؛ فيُصيبُنا شيء من الفزع وقد لا تَقوى أقدامنا على حملنا في تلك الثواني الاستثنائية.

هذه الظاهرة النفسيّة كانت ولا تزال من أعقد المواضيع التي تطرق إليها علم النفس؛ فقد بدأت الجهود الأولى لفهمها على يد علماء النفس الفَرنسيين؛ وهو ما يفسر تسميتها الفرنسية والتي تعني حَرفيّا (شُوهِدَ سَابِقاً) غير أن هذه الجملة صارت مع الوقت تَعبيرا عالميا تُعرف به هذه الظاهرة؛ ويُعْتقد أن السيكولوجي الفرنسي (إميل بواراك) هو أول من استخدم هذا المصطلح في كتابة (مستقبل العلوم النفسية) وقد انتشر هذا المصطلح من انتشار الرغبة في فَهمه؛ وفي هذا السياق يُشير الباحث السويسري آرثر فونخوسر إلى أن ما يصل إلى 70 % من الأفراد تتكرر عندهم الظاهرة بشكل مُقلق؛ وخصوصا عند الفئات العمرية الممتدة ما بين 15 و 25 سنة.

ظاهرة Déjà vécu لم تُقدّم على أنها ظاهرة مَرَضِيّة؛ فلم تُجرى أي بحوث حول إمكانية التخلص منها؛ في مقابل بحوث أخرى سعت إلى استثمارها في فهم آليات عمل الدماغ وقدراته الخارقة

وقد ظهرت لاحقا الكثير من النظريات التي تحاول إيجاد تفسيرات علمية لظاهرة ديجا فو؛ ورغم أن هذه النظريات لم تصل إلى تفسير علمي حاسم؛ إلاّ أن بعضها قد نجح في تقديم تحليلات مثيرة حول آلية عمل هذه الظاهرة؛ فقد أشار بعضها الى إمكانية وجود خلل في الذاكرة يترتب عليه إطلاق إشارات خاطئة تُخبر الدماغ بأن صاحبه قد عاش هذا الموقف من قبل؛ وأن هذا الخلل يُفسر عدم قدرة الدماغ على تقديم تفاصيل أكثر عن مكان وزمان حدوث الموقف السابق؛ كما رأت أخرى بوجود مشكل في التواصل بين الفصّين الدماغيين الأيمن والأيسر بحيث يكون عمل أحدهما أسرع من الآخر مما يَنْجرّ عليه اجترار المعطيات في الفص الأبطأ على أنها ذكريات سابقة.

حيث اقترح (روبرت إيفرون) من مستشفى بوسطن أن ديجا فو تعود إلى المعالجة العصبية المزدوجة الناجمة عن الإشارات المتأخرة؛ وقد وجد إيفرون أن فرز الدماغ للإشارات الواردة يتم في الفص الصدغي لنصف الكرة الأيسر من الدماغ؛ وعادة ما يكون البُطأ طفيفا لا يتجاوز جزء من الثانية؛ ورأي بذلك أنه إذا لم تتم مزامنة الإشارتين في بشكل صحيح، فستتم معالجتهما كتجربتين منفصلتين، تبدو الثانية منهما كإعادة معايشة للأولى.

وفي تفسير علمي آخر لظاهرة (دِيجا فو) ترى بعض الدراسات إمكانية وجود تفوّق لإحدى العينين على الأخرى؛ مما يجعلها تسجل الحادثة أسرع قليلاً من نظيرتها؛ فيُخيّل للعقل الذي يدرك الواقعة بالعين المتأخرة بأنها حدثت من قبل؛ لكن يعاب على هذا التفسير أنه غير قادر على تعميم قاعدته هذه على الحواس الأخرى؛ كالسمع واللمس.. حيث أن هنالك من المواقف ما نشعر فيها بأنه سبق وأن سمعنا ذات الصوت أو عايشنا ذات الملمس من قبل.

كما ظهر تفسير آخر أكثر مقبولية يقوم على ربط الظاهرة بالذاكرة قصيرة المدى وذلك بتَصوّر وجود تداخل عصبي بينها وبين الذاكرة طويلة المدى؛ بحيث يتم تخزين الأحداث في الذاكرة قصيرة المدى وتقديمها للدماغ على أنها جاءته من الذاكرة طويلة المدى؛ وذلك بسبب قدرة الدماغ العالية على معالجة المعلومة بسرعة فائقة، يتجاوز فيها نظام الذاكرة نظام الإدراك؛ بحيث تقوم الذاكرة قصيرة المدى بوظائفها قبل أن يكمل الإدراك عمله؛ وذلك رغم أن الإدراك هو من منح المعطيات للذاكرة؛ وبهذا فالظاهرة تفسّر قوة النشاط العقلي الذي يتميز به الإنسان.

فيلم Déjà vécu، تدور أحداثه حول رجل ينظر لوقائع حدثت لتوها أمامه على أنها ذكريات؛ ويسعى لاحقا بمساعدة مختصين إلى استثمار قدرته هذه لتلافي وقوع أحداث خطيرة في المدينة التي يعيش فيها
فيلم Déjà vécu، تدور أحداثه حول رجل ينظر لوقائع حدثت لتوها أمامه على أنها ذكريات؛ ويسعى لاحقا بمساعدة مختصين إلى استثمار قدرته هذه لتلافي وقوع أحداث خطيرة في المدينة التي يعيش فيها

هذا ويضيف لنا آرثر فونخوسر حقيقة أخرى تشير إلى أن ظاهرة (ديجا فو) تنقسم إلى أربع أنواع حيث نجد ما يمكن أن نسميه الـمُعَاش سابقا (déjà vécu) وفيه ترتبط الواقعة بأحداث حياتية متعددة الحواس؛ حيث يمكن للفرد أن يتصور بأنه عاش حفل زفافه من قبل؛ أو أن يتصور بأنه تعرض لذات الشجار سابقا. أما النوع الثاني فهو المسمى الـمَشْعُور به سابقا (déjà senti) وهذا النوع يرتبط بتعرض الشخص لإحساس ما؛ ويتصور في ذات الحين أن هذا الاحساس بالضبط سبق له وأن شعر به؛ كأن يشعر الفرد بخوف شديد مع تصور بأنه عاش هذا الشعور كما هو تماما من قبل؛ دون أن يعرف أين ومتى.

وفي النوع الثالث المسمى الـمُزار سابقا (déjà visité) ينتاب الفرد إحساس بأنه زار هذا المكان أو المدينة من قبل رغم أنه يزورها لأول مرة؛ وذلك من خلال تصوره لخارطة المكان ومداخله ومخارجه. كما يوجد شكل رابع ينضوي تحت نفس الظاهرة رغم أنه معاكس لسيرورتها؛ وهو المسمى اللامُشاهد سابقا (Jamais vu) وفيه لا يستطيع الفرد أن يتذكّر موقفا مألوفا للغاية وكأنه لم يره من قبل؛ كأن يستغرب الأب وجود أبنائه حوله ويتخيل بأنهم غرباء عنه لبرهة من الزمن؛ وهو شعور مخيف يترتب عليه في كثير من الأحيان اعتقاد الأفراد بأنهم سيجنُّون.

ولأن الظاهرة لم تُقدّم على أنها ظاهرة مَرَضِيّة؛ فلم تُجرى أي بحوث حول إمكانية التخلص منها؛ في مقابل بحوث أخرى سعت إلى استثمارها في فهم آليات عمل الدماغ وقدراته الخارقة؛ وخصوصا تلك الدراسات التي تهدف إلى تطوير الذاكرة البشرية وتحسين أدائها؛ كما جرت بحوث أخرى بهدف اصطناع الـ ديجا فو من خلال استثارة بعض المناطق في الدماغ؛ أو من خلال استخدام التنويم المغناطيسي؛ وقد نجح بعضها في إحداث شكل بسيط وجزئي من هذه الظاهرة.

ونظرا للغرائبية التي تتصف بها هذه الظاهرة فقد ألهمت السينما العالمية؛ حيث قام المخرج الأمريكي (توني سكوت) بإعداد فليم سينمائي بذات العنوان (Déjà vu) سنة 2006؛ وقد شارك في بطولته كل من (دنزل واشنطن) و (جيم كافيزل) و (بولا باتون) والذي تدور أحداثه حول رجل يَكتشف بأنه ينظر لوقائع حدثت لتوها أمامه على أنها ذكريات؛ ويسعى لاحقا بمساعدة أشخاص مختصين إلى استثمار قدرته هذه لتلافي وقوع بعض الأحداث الخطيرة في المدينة التي يعيش فيها.
_______________________________
* المصادر

جملة باللغة الفرنسية ترجمتها: "سبق ورأيته"
The Royal Society of Medicine Health Encyclopedia
Cambridge University Press

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.