شعار قسم مدونات

بين تِيْهٍ و تَيّه!

Blogs- lost
في ازدحام الأحداث وتسارع الأيام واضطراب اللحظات أقبع أنا وأنت يا صديق في عشرينيّات عمرنا نمعن النظر هنا وهناك محاولين التقاط أنفاسنا في مارثون الحياة الطويل. نتوه تارةً في دربنا وتارةً نجد أنفسنا. نتعثر في كل مرحلة وننهض. نُنكص رؤوسنا حيناً من خيبة ألمّت بنا وحيناً نشمخ بها متفاخرين بإنجازنا.
        
نتعجب كيف بلغنا العشرين وما زالت أحلامنا مبعثرة في مخيلاتنا وما زال طيف من ملامح الطفولة في محيّانا. نرى تناقضاً عجيباً لذاك وتلك الذين تخلو عن مبادئهم وانجرفوا مع تيارات الانفتاح الخاطئة. نندهش ممن كانوا قدوة لنا في الأمس وأصبحوا اليوم في حالة يرثى لها. نرمق أحدهم من بعيد نظن أننا نعرفه وكان يوماً صديقاً للعمر ثم فرقتنا اختلافات فكريّة. نحاول فهم الأحداث من حولنا والتغيرات التي ألمت بنا لكن ما ننفك أن نرى خيط نور فيتبعه تشابك رهيب غير مفهوم. في أعيُننا تختفي حكاياتٌ وحكايات وظلالٌ من الدموع ولا أحد يفهم سببها.
            
ضجيجٌ يتمكّن منا ويُؤرقنا ليل نهار يّعم أرجاء عقولنا وقلوبنا! نحن الذين ظننا أننا كبرنا وعرفنا ما نريد! لكن على الراجح أنه ما زال شيئاً غَضاً طريّاً فينا نتعثر به في كل مرحلة وشيئاً آخر يُضمد كدمات صدامنا في هذا العالم ويُضفي حياةً لحياتنا. تخبطات كثيرة وصراعات تبدو وكأنها أزليّه بين خياراتنا، أمنياتنا، أحلامنا، قدراتنا، واقعنا، فرصنا! ولفترة طويلة نشعر أن ضجيجنا الداخليّ وضجيج عالمنا الخارجيّ أرهقنا جداً، مشتتون أغلب الوقت نحضر بأجسادنا وعقولنا شاردة في مستقبل لا لافتات واضحة ولا شيء يدل عليه. وتبدو تجارب الآخرين محبطة.
          

بين تِيْهٍ وتَيّه اضمم عليك قلبك واستجمع قواك يا صديق واستعن بالله فهو قادر سبحانه أن يُلقي في قلبك نوراً وأن يجعلك تهتدي من حيرتك
بين تِيْهٍ وتَيّه اضمم عليك قلبك واستجمع قواك يا صديق واستعن بالله فهو قادر سبحانه أن يُلقي في قلبك نوراً وأن يجعلك تهتدي من حيرتك
 

لكنّ هل سنستسلم بسهولة! ما زلنا في مُقتبل عمرنا الفتيّ الورديّ! نحن لا نشبه أحداً ولا نُعوّل على تجارب أحد. لذا فلنتخلص من قوالب حياتهم، هذه حياتنا وحدنا ولهذا علينا أن نسعى يا صديق بشغفٍ دائم لفهم ذواتنا ومصاحبتها ولنستكشف قدراتنا وإمكانياتنا. متعب حقاً أن نحاول فهم أنفسنا! وما نريد في هذه الحياة وما علينا أن نقدم لأنفسنا أولاً وينصب تلقائلياً في إطار الآخر. لكننا عهدنا على أنفسنا أن نحاول محاولات نبيلة متكررة مهما تعثرت خطانا أو ضاقت بنا السُبل.

           
دائماً نُجيد استجماع قواتنا متظاهرين أن كل شيء على ما يرام. لكنّنا كثيراً ما نضعف عند السؤال الشائك من أحدهم "عرّف بنفسك! من أنت؟" نصدم بالسؤال ويعلو صوتاً في داخلنا يردد "أرجوك أنا أتعثر بدربي كل يوم وأتلعثم في الحديث عن نفسي أنت لا تدري كم هو صعب أن أجيب عليه، هذا السؤال يحمل عمقاً كبيراً ما غُصت بعد لأصل إليه" نتجاهل السائل ويبقى السؤال يدور في رؤوسنا ونفرط في التفكير به حتى يحرمنا من استشعار وعيش بعض اللحظات الجميلة.
      
لربما أفضل شيء يمكن فعله يا صديق أن نرتب كل صراعاتنا وما يجول في خواطرنا ونخطّه على ورقة نشير إليه بطريقتنا ونلونه كما نريد. وأن نكتب رسائل لأنفسنا نحفز بها ذواتنا محاولين اقناعها أن كل شيء سيكون بخير – سيبدو للبعض أن هذا محض جنون- لكنّ صدقني سيحاول تهدئة خفقات قلوبنا الضائعة بين خيارات الحياة قليلاً وسيعينُنا إن ضللنا. لا تتظاهر بالنسيان لكل تلك الأحلام الطفوليّة التي ما زال بعضاً منها عالقاً على جدار قلبك وكل الحوارات التي حدثت بها نفسك أمام المرآه يوماً.
      
دعني أخبرك يا صديق من المستحيل أن تعرف نفسك وتدرك خارطة قلبك وتتصالح مع ذاتك دون أن تستوعب أنّك بشريّ وأن كل هذا التيه طبيعيّ بل وضروري كعلامة تخبرك أنك ما زالت على قيد الحياة وفيك روحاً شغوفة. وأن تتيقن أيضاً أن كل هذا سيمضي وأنه ضمن خياراتك أن تصنع لنفسك همّاً وهمّة أو تستسلم من أول تعثر وتمضي العمر على هامش لا شيء في هذه الحياة. بين تِيْهٍ وتَيّه اضمم عليك قلبك واستجمع قواك يا صديق واستعن بالله فهو قادر سبحانه أن يُلقي في قلبك نوراً وأن يجعلك تهتدي من حيرتك.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.