شعار قسم مدونات

العرب من جاهلية الدين إلى جاهلية التدين

blogs داعش

عرفت جزيرة العرب دين التوحيد في زمن سيدنا إبراهيم عليه السلام، واستمر ذلك بعده إلى زمن بعيد حتى تحرَّف هذا الدين وأصبح العرب عبدة أوثان، لكن بقيت فيهم منظومة أخلاقية كريمة، وهذا ما أكده حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنما بعثت على تمام محاسن الأخلاق) (أخرجه ابن عبد البر في التمهيد 4711.

 

يفضي هذا الحديث إلى أن العرب قبل الإسلام كانوا على مستوى رفيع من الأخلاق، لكن جهلهم بالدين السَّمِح جعلهم يتيهون بين شتات كلمتهم وعصبيتهم القبلية وتناحرهم حول مسائل الدنيا كالرياسة والجاه والشرف، حتى بعث الله عز وجل فيهم نبياً يعرفون نسبه وصدقه وأمانته، فدعاهم إلى دين التوحيد الإسلام جمعهم فيه على صعيد واحد، وصاروا به خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، كما سادوا بهذا الدين بلادهم وبلاد الروم والفرس؛ بعدما كانوا تحت رحمتهم.

ظهرت عدة أحزاب تحمل مشروع الإسلام السياسي لا بمفهوم العصور الوسطى بل بقصد التجديد والاعتماد على الإسلام كمنظومة سياسية حاكمة ضمن نطاق ديمقراطي

إلا أن هذا الحال الجديد لم يدم طويلا حتى عادوا سيرتهم الأولى، لكن هذه المرة بشكل مختلف، فحب الشرف وطلب السلطة والجاه وجمع المال لم يغادر أهواءهم، كبرت المطامع فكبرت معها وسائل الطلب، فبعد أن كانت بالعصبية القبلية سارت باسم الدين، فهنا لا نعمم في الذكر كل العرب المسلمين إنما نخص منهم من طلب السلطة وبلغها بتكفير خصومه من خلال إحداث دعوة دينية جديدة تناهض معتقدهم وتؤسس لفكر سياسي جديد.

 

ومسرح التاريخ مليء بالثورات ذات الطابع المذهبي نذكر منها على سبيل المثال ما أحدثه الفاطميون في بلاد المغرب الإسلامي من حراك سياسي وعسكري وشمل بعد ذلك مصر وأجزاء من بلاد الشام، حيث قاموا بنشر دعوتهم الشيعية الرافضة التي كانوا يدعون من خلالها إلى محاربة الخلافة العباسية، فقد ادعى أميرهم "عبيد الله المهدي" أنه المهدي المنتظر المبشر به في آخر الزمان وصارت لهم دولة عرفت باسم الدولة الفاطمية أو العبيدية سنة 296هـ واستمر سلطانهم حتى أسقطه صلاح الدين الأيوبي في مصر.

وأيضا من الثورات الكبرى التي عرفها التاريخ الإسلامي ثورة "محمد بن تومرت المصمودي" (ت 524هـ) مهدي الموحدين ضد خصومه المرابطين، فقد أحدث ضدهم ثورة في بلاد المغرب الإسلامي في المنتصف الأول من القرن السادس للهجرة (518هـ)، فأورد في حقهم -أي المرابطين- نصوص تكفيرية موحشة نعتهم فيها بالكفر وفساد العقيدة، ومما جاء في إحدى رسائله التي وجهها لهذا الغرض، "واعلموا وفًقكم – يعني أتباعه – أن المجسمين والمكابرين وكل من نسب إلى العلم، أشد في الصد عن سبيل الله من إبليس اللعين فلا تلتفوا إلى ما يقولون فإنه كذب وبهتان وافتراء على الله ورسوله"، وبالإضافة إلى هذه الصفات التي قال بها ابن تومرت ضد دولة المرابطين، فإن القارئ لكتابه أعز ما يطلب يدرك أن ابن تومرت قد شحنه بالطعن فيهم، بل إنه قد أفرد فصولاً خاصة منه لهذا الغرض.

هذا نموذج حي في العصور الوسطى وقد سبق ذلك تجارب عدة في التكفير والادعاء بالمهدي المنتظر مثل ثورة الحشاشين بزعامة "حسن الصباح" بالمشرق الإسلامي التي أحدثت قلقاً كبيراً للدولة السلجوقية، كل ذلك من أجل تحقيق مطية سياسية هدفها مسح وجود من قبلهم والاستيلاء على عرش الزعامة بالعالم الإسلامي، ظلت الدعوات المذهبية لعهود طويلة تنظِّر لتأسيس دول جديدة وتتعهد بنصرة المسلمين وإخراجهم من دائرة الغبن والضعف، فمنها من كانت صادقة ومنها من جاءت تحمل أطماع سيادية لا غير، وكل هذا دائما باسم الدين؛ فأصبح الدين وسيلة لبلوغ الغايات الدنيوية الدنيئة بعدما كان منهج حياة وطريق نجاة وتشريع قويم لحياة الأمم والشعوب..

ما نعيشه الساعة تحت مسمى دولة الإسلام العراق والشام (داعش)، هو الطامة الكبرى، وهو الجهل الحقيقي لمعنى الدين، وهو المفهوم التام لجاهلية التدين، حيث أصبح القتل والتعذيب والذبح جهادا باسم الإسلام
ما نعيشه الساعة تحت مسمى دولة الإسلام العراق والشام (داعش)، هو الطامة الكبرى، وهو الجهل الحقيقي لمعنى الدين، وهو المفهوم التام لجاهلية التدين، حيث أصبح القتل والتعذيب والذبح جهادا باسم الإسلام
 

بعد تعدد التجارب وفشلها ظهرت العلمانية الحديثة التي تدعو إلى التجرد من الدين في دواليب السلطة وتسيير مؤسسات الدولة، لكن ظهرت بعد ذلك أحزاب تحمل مشروع الإسلام السياسي لا بمفهوم العصور الوسطى بل بقصد التجديد والاعتماد على الإسلام كمنظومة سياسية حاكمة ضمن نطاق ديمقراطي، لكن الأمر في هذه الحالة معتدل ومشروع، ولو أنه شيطنته أطراف معادية لحكم الإسلام، حيث ترى في الإسلام السياسي رجعية وتخلف وتراجع، وذلك ناتج عن سوء فهم لهذا المشروع.

ظهرت حركات جهادية باسم الإسلام كحركة طالبان في أفغانستان وما عاشته الجزائر في تسعينيات القرن الماضي، ولكن ما نعيشه الساعة تحت مسمى دولة الإسلام العراق والشام (داعش)، هو الطامة الكبرى، وهو الجهل الحقيقي لمعنى الدين، وهو المفهوم التام لجاهلية التدين، حيث أصبح القتل والتعذيب والذبح جهادا باسم الإسلام أبشع جماعة إرهابية عرفها التاريخ، أسمى معاني الجاهلية، أي صورة للإسلام يتم تسويقها، الإسلام براء من تدينهم المخادع.

زالت من التاريخ ممالك عربية كمملكة كندى ومملكة المنادره حليفة الفرس، ومملكة الغساسنة حليفة الروم، ثم زالت بعد ذلك إمبراطورية الفرس وبعدها إمبراطورية الروم، ولكن بقيت جاهلية العرب إلى اليوم، جاهلية تسببت في تتابع النكبات تارة باسم الدين، وتارة أخرى بفعل السياسة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.