شعار قسم مدونات

قيمتك في درهمك!

Blogs-moeny
قد نستغرب ونتعجب جميعا، تبعا لما تستدعيه ملاحظاتنا اليومية المألوفة ومعرفتنا المعيارية، من حياة نبتة السّاكورا اليابانية _ أو الكرز الياباني_ التي ينبت بعض أنواعها في الفجر ليموت في فترة الغروب، بل، وتُثبت بعض الأطالس العلمية أن حياتها كلها لا تتجاوز الأسبوع! ولهذا يُرمز بالسّاكورا إلى الحياة سريعة الزوال، وإلى الجمال الفاني على وجه العجلة. لكن، ما علاقة هذه التقدمة بالمشار إليه في العنوان؟

إن الحديث عن الإنسان قيمةً

ومكانةً حديث مكرور ومعروف لدى الجميع، والتشريعات السماوية والأرضية على السواء أجمعت بهذا الصدد على ضرورة تكريم هذا الكائن العاقل بما يليق به، لعله ذات يوم لا ينحدر إلى ما دونه من الكائنات الحية في درجة دنيا، وهو الأمر الحادث حقيقة بعدما سقط شأنه وغدا بضاعة رخيصة تُباع وتُشترى. وما دمنا في معرض الحديث عن البيع والشراء، فالحديث ضمني عن المال وعن سلطته الاعتبارية.

لا يمكن لأي سبب من الأسباب جحود أهمية المال البالغة في تلبية الحاجات وفي تحقيق المنافع والمكاسب، ولاشك أنه _ بنوعيه العام والخاص _ أصبح منذ تداول أول عملة موحدة صينية قبل ثلاثة آلاف سنة تقريبا، عصب الحياة ونسغها الحيوي، وبه صارت شؤوننا الدنيوية أقرب إلى اليُسر وإلى المرونة من ذي قبل، حيث لم تعرف البشرية إلا مقايضة سلعة بأخرى؛ بل، وهناك من عدّه سببا رئيسا من أسباب السعادة والاستقرار الاجتماعي والنفسي… ومع استحضارنا الواعي لهذا الدور الفعال لكل ما يحمل قيمة مادية، ومع إيماننا الكامل بالمال ميسّرا دورة الحياة، بيد أننا نتحفظ على تبويئه مثابة ودرجة أعلى من الإنسان ذاته، واعتباره غاية مَرومة بشتى الوسائل، عوض اختزاله في وسيلة وأداة يقلّبها مستعمله بين يديه، أداة تؤدي وظيفة ما لا أقل ولا أكثر.

من التجنّي على مفاهيمنا المتداولة مجتمعيا، عقد زواج
من التجنّي على مفاهيمنا المتداولة مجتمعيا، عقد زواج "كاتوليكي" بين تعريفنا للإنسان ماهيةً وكينونةً، وبين تعريفنا إياه كقيمة "مادية" محضة، قيم لا تعير أي اهتمام للجانبين القدسيّ والروحي فيه
 

لئن كانت نبتة الساكورا اليابانية تفقد قيمتها الجمالية والمادية بعد يوم فقط من ذبولها، أو بعد أسبوع على أبعد تقدير، فالإنسان أصبح فاقدا لقيمته الآدمية منذ نشبت الرأسمالية المتوحشة أظفارها في كل معيشنا اليومي، وبسطت المذاهب المادية نفوذها على الذهنية العمومية _ بتعبير العروي _ وعلى الأفكار، حتى وجدنا أنفسنا وسط هذه السيولة الهائلة من المرجعيات الجديدة، التي أصبحت تنتج سلوكات مستهجنة تكاد تصنف ضمن النشاز الاجتماعي والشذوذ الفكري، تحت يافطة: أنت وما تملكه من مظاهر مادية! أي، عنوان حياتنا الحديثة أو "السائلة" بتعبير باومان.

قد يكون من "العار" الاجتماعي والديني، إن صح التعبير، اعتبار المال آلهة تُعبد وتُقدّم لأجلها القرابين، وجعله شيئا كامل التقديس تنتهي عند أعتابه المرامي والغايات. ومن المستظرف في هذا المقام التعريج على بعض ما الآثار الأدبية التي وإن كانت بسيطة في تراكيبها، إلا أنها تستبطن من المعاني والقيم ما يصب في موضوعنا، كأنما خُلق الإنسان بضلع مادي منذ بدء الخليقة. ومما أستلطف استحضاره، قول الأول: وكان بنو عمي يقولون مرحبا *** فلما رأوني معدَما مات مرحبُ

وقول علقمة الفحل في بائيته المشهورة، منتقدا بعضا من سلوكات نسوية مادية:
فإن تسألوني بالنساء فإنني *** بصيرٌ بأدواء النساءِ طبيبُ
إذا شاب رأسُ المرءِ أو قَلّ مالُه *** فليس له في وُدّهن نصيبُ

وقول محمد بن القاسم الهاشمي في لاميته، في نفس السياق دائما:
إن الغنيّ إذا تكلَّم كاذبا *** قالوا: صدقتَ وما نطقتَ مُحالا
وإذا الفقيرُ أصابَ قالوا: لمْ يُصبْ *** وكذبتَ يا هذا وقلتَ ضَلالا

أما وقد وضح المقال، فلا داعي إذن لاستدعاء مزيد من الآثار والشواهد التي تكاد تُجمع على معنى وحيد مفاده: قَدْرُك المعنوي لا معنى ولا وزن له إزاء فقدانك قدْرَك المادي ووزنك "النقدي"، فالمال، كما قال شكسبير، عندما يتقدم تُتفتح أمامه كل الأبواب.

إن الربط القائم بين أقدار الناس ومراتبهم وبين ما يحوزونه من أموال، لهو ربط غير مباشر بين المال في تجلياته المتعددة، وبين السعادة متمثّلةً في الاستقرار المادي والنفسي وفي الرفاه الاجتماعي؛ إذ يزعم المتخندقون داخل هذا النمط في التفكير أن المال كسبب من أسباب القوة، سبب رئيس من أسباب السعادة. كيف لا وهو القادر على تجاوز الماضي وجبر كسوره، وعلى الإمتاع في الحاضر، وعلى تأمين المستقبل؟ أ ليس المال قادرا على نسف كل أشكال الحرمان المحدقة بالمعدومين؟

متى سنكون قد تخلّينا مُمارسةً عن "الكوجيتو" الديكارتي، الذي بدأ يفرض ذاته بشكل لافت: أنا صاحب درهم، إذن أنا موجود؟!

قد تكون هذه الأسئلة وأمثالها مقنعة ومنطقية، بل، هي بالذات ما ينبغي طرحه الآن، منذ بشّر مفكرو العالم الغربي بقيم العولمة والحداثة التي لخّصها كانط في "خروج الإنسان من حالة الوصاية التي تسبب فيها بنفسه، والتي تتمثل في عجزه عن استخدام فكره دون توجيه من غيره.."؛ وبورديّة الحضارة المادية الجديدة، التي ألقت بظلالها على كل شيء تقريبا. بيد أن للدراسات الحديثة رأيا آخر غير ما هو مألوف ومأنوس، خصوصا إذا تم اعتماد المناهج التجريبية والاستقرائية التي تكون نتائجها أقرب إلى الحقيقة.

فقد توصلت الدراسة المنشورة في مجلة "دراسات السعادة"، التي أشرف عليها غريغوري بون، المحاضر بقسم علم النفس بجامعة موناش الأسترالية، إلى أن الارتباط مع أفراد المجتمع بعلاقات حقيقية وطيدة، واكتساب الحكمة، وعيش حياة أخلاقية، كانت على رأس عشر متطلبات الحياة الجديرة بالاهتمام، ليأتي المال خامس أقل المتطلبات أهمية؛ كما أكد الباحثون أن النتائج المرصودة هي نفسها بين كل العينات التجريبية المختلفة عرقا وثقافةً ومستوى اجتماعيا، ليثبتوا أخيرا أهمية وقيمة مفهوم الإنسانية مقابل كل المفاهيم المادية التي حجبت مناظيرنا أمام الحياة، لتسقط _ تجريبيا_ بذلك كل المسكوكات الكلاسيكية المُعشّشة في أذهاننا منذ أمد.

فالسعادة، كما قال لافونتين، قناعة، فلا الذهب ولا العظمة يجعلاننا سعداء. ليصبح من التجنّي إذن على مفاهيمنا المتداولة مجتمعيا، عقد زواج "كاتوليكي" بين تعريفنا للإنسان ماهيةً وكينونةً، وبين تعريفنا إياه كقيمة "مادية" محضة، قيم لا تعير أي اهتمام للجانبين القدسيّ والروحي فيه، بالرغم من كونه أشرف من عرفته الخليقة منذ مهدها الأول؛ هو مبتدأ الحضارة البشرية ومنتهاها؛ هو من ندين له في ما نشهده من تطور وتقدم؛ هو العقل الذي سبر ذواتنا وعرّفَنا مجاهيلها، ومجاهيل الكون في مستوى آخر.. هو أول شيء وآخر شيء وكل شيء، ولله در الإمام علي بن أبي طالب منشدا:
وتَحْسَب أنكَ جِرْم صغيرٌ *** وفيك انطوى العالمُ الأكبرُ

متى نتخفف إذن من أثقال مَعْيَرَة وجود الإنسان بملكيّته وبمعدوميّته، بفقره وبغناه؟ ومتى سنقنع أنفسنا جديا، بعيدا عن كلام مفرغ من أدنى إرادة حقيقية لتغيير أنماط محاكمتنا للمواقف وللسلوك، بضرورة تقبّل الآخر من حيثية آدميته وإنسانيته فقط، دون الالتفات إلى ما يحيطه من زخارف خارجية ومن هالات برّاقة زائفة تُجانب في غالب الأحيان جوهر الذات الحقيقي، وتجعلنا نخطئ ونتعثر دوما في قراءتها قراءة نافذة صائبة؟ ومتى سنكون قد تخلّينا مُمارسةً عن "الكوجيتو" الديكارتي، الذي بدأ يفرض ذاته بشكل لافت: أنا صاحب درهم، إذن أنا موجود؟!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.