شعار قسم مدونات

الإسلام السياسي لن يفتح القفل

blogs - جماعة الإخوان المسلمين

ما العلاقة بين كتاب "قل ولا تقل"، وبين "ستالين" وبين "الإخوان المسلمين"؟

في كتابه المشهور يمنع مصطفى جواد النساء من الزغاريد. فالزغردة للبعران. فإن قلت إن "الإبل" زغردت قال لك: أخطأت! الذي يزغرد هو الجمال الذكور لا غير. الكتاب بجزأيه يسعى بجهد كبير (مستند إلى معرفة عميقة بماضي لغة العرب) إلى قهقرة الزمن. يريد أن يصب فوق رأس اللغة العربية الأسمنت حتى لا يغير فيها أحد شيئاً. وقد صدرت عشرات الكتب المشابهة التي تسعى إلى تخليد القديم. ولا سبيل. اللغة ماضية في سبيلها تتطور وتتغير. اللغة لا تسمع الكلام، اللغة طفل شقي.

 

وستالين!

قد ورث ستالين عن آبائه في الفكر الماركسي نظريات، (وهي نظريات لها من الجمود نصيب). ولأن ستالين دكتاتور فقد صب عليها الأسمنت. وبعد موته بقليل حاولوا إضفاء بعض المرونة على الفكر السياسي الماركسي في الاتحاد السوفييتي، لكن.. ما تصنع الماشطة بالوجة الدميم!

 

الإسلام السياسي يؤدي بعضه إلى بعض. وهذه مقولة قد يغضب لها أهل الإسلام الوسطي الحقيقي. فهم بعيدون كل البعد عن فكر وممارسات القاعدة وداعش

فلماذا نجحت الرأسمالية؟ لا لم تنجح في صورتها الجامدة. فالرأسمالية المنفلتة من عقالها تم حقنها في ألمانيا، على يد بسمارك، بحقنة من الضمانات الاجتماعية التي ما زالت سارية حتى اليوم؛ والرأسمالية في بريطانيا لقيت تحدياً من الفابيين الذين تمكنت ذراعهم السياسية "حزب العمال" من تسنم الحكم مراراً. ونظام التأمين الصحي الشامل في بريطانيا اليوم من أنجح نظم الضمان الصحي في العالم كله. المرونة ضمنت للرأسمالية البقاء. ولو ظلت الرأسمالية سائرة مغمضة العينين على هدي النظريات المركنتيلية العتيقة لما صمدت. وكانت الغنائم الاستعمارية عنصراً آخر أدخل مرونة (قبيحة في الواقع) على الرأسمالية.

 

الرأسمالية ناجحة لأنها ليست عقيدة. ها هي تقول بالصوت العالي "لا للحمائية"، ثم يأتي ديغول ويقول "ما هذا الهراء! بل نريد الحمائية"، ويظل رأسمالياً. ويأتي نظام "الغات" ضد الحمائية، وتكون الولايات المتحدة أول من يكسره عندما تشعر بتهديد السلع الصينية. الرأسمالية ليست شيئاً مطلقاً لذا ستعيش طويلاً، وستتلون بألوان شتى. كذا هي السياسة، كذا هي الدنيا. العقيدة الثابتة مكانها القلب لا ميدان السياسة.

 

ونأتي إلى الإسلام السياسي. إنه نظام متعدد الدرجات، هناك الإسلام الوسطي، وهناك الإخوان المسلمون، وهناك حزب التحرير، وهناك القاعدة، وهناك داعش. ويجمع هذه الدرجات جامع لا يغيب عن المراقب المحايد: جميعها تريد العودة إلى الوراء. فحتى التيار الوسطي الحقيقي (وبالتأكيد لا نقصد منظري الحكم العسكري الحالي في مصر، فهذا تيار يتلفع بعباءة الدين عن سوء نية) يسعى إلى العودة إلى حكم الخلفاء الراشدين ويهتدي بهديهم. وفي الواقع فإن عصر الخلفاء الراشدين الذي دام 29 سنة كان مشحوناً بالسياسة، من حروب الردة إلى الفتوح إلى يوم الدار وصولاً إلى صفين.  

 

ويجمع درجات الإسلام السياسي أنها تستند إلى مرجعية غير سياسية. وخير سؤال يوجهه الناقد إلى الإسلام السياسي: احترنا معك، أأنت إسلام أم سياسة؟

 

الإسلام السياسي يؤدي بعضه إلى بعض. وهذه مقولة قد يغضب لها أهل الإسلام الوسطي الحقيقي. فهم بعيدون كل البعد عن فكر وممارسات القاعدة وداعش. وهذا حق. غير أن الأمر يشبه الحبل الذي نزلت به الأميرة من سجنها في البرج العالي. فقد دلَّت من أعلى البرج شعرة من رأسها، وعقد حبيبها بالشعرة خيط حرير، ثم بخيط الحرير خيط قنب، ثم بخيط القنب حبلاً غليظاً.. ونزلت الأميرة.

 

الدين حق. هو مسعانا، نحن البشر، إلى الإجابة عن سؤالين: من أين جئنا؟ وإلى أين نذهب؟ ولا يحق للعلماني أو الملحد أن يمنعني من التفكير في هذين السؤالين، ولا أن يحظر علي الانتساب إلى دين يساعدني في الحصول على إجابة.

 

عندما يخرج الدين من القلب إلى ميدان السياسة تعتريه علل التمذهب والطائفية والتأويل والتساهل والتشدد، ويتدخل في الزراعة والصناعة والتحالفات
عندما يخرج الدين من القلب إلى ميدان السياسة تعتريه علل التمذهب والطائفية والتأويل والتساهل والتشدد، ويتدخل في الزراعة والصناعة والتحالفات
 

كان لي موقف مع كتاب "وهم الإله" لريتشارد دوكينز. فقد شدد في النصف الأول من كتابه على أن لا إله. وباسم العلم سعى إلى حشر المؤمنين في زمرة "المرعوبين" و"النفعيين" و"المهزوزين". ولا أعلم ماذا صنع في النصف الثاني من الكتاب فقد طرحته من يدي إلى غير عودة. هذا على الرغم من العقدة التي تلازمني منذ الصغر، وهي أنني لا أبيح لنفسي التقاعس عن إكمال أي كتاب، كأنني أعد ذلك هروباً من التحدي.

 

الدين حق. ومكانه القلب. وأما السياسة فهي معالجة الأرض والبشر حرباً وسلماً وزراعة وصناعة وتحالفات وغدراً ووفاء. السياسة سعينا الدائب للبقاء في هذه الغابة التي هي الدنيا؛ ويحسن بالدين أن ينأى بنفسه عن هذا كله.

 

عندما يخرج الدين من القلب إلى ميدان السياسة تعتريه علل التمذهب والطائفية والتأويل والتساهل والتشدد، ويتدخل في الزراعة والصناعة والتحالفات.

 

فهل فهم عني أحد أنني أدعو إلى النظام الرأسمالي؟ وهل الرأسمالية نظام؟ هل رأسمالية إيطاليا تشبه رأسمالية روسيا؟ أم أن رأسمالية الولايات المتحدة تشبه رأسمالية اليابان؟ بل هذه كلها أنماط في الحكم وإدارة الاقتصاد مبنية على المصلحة ضمن دول مستقرة. فأما الدول العربية والإسلامية، فهي ما زالت تحاول فتح القفل، والمفتاح لن يكون الإسلام السياسي، بل مصالح المواطنين وهمومهم في هذه الحياة الدنيا، فأما مصيرهم في الآخرة فهذا شأن يعالجه كل فرد وحده.

 

 في يوم القيامة، يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً، سيعلق كل فرد من عراقيبه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.