شعار قسم مدونات

اعتزل ما يؤذيك

Blogs-alone
لأنني ما كنت يوماً انطوائية ولا قابلة للتّزوية أو محبّة لكرسي المحاضرة المُلتصق بالجدار، لأنني كنت دائماً أجلس في المقدّمة وأرفض أنصاف الأشياء.. لأنني أؤمن بالأسود والأبيض وأرفض الرّمادية.. أنا الآن أعتزل. الساعة الآن عقدٌ ونصف العَقد من عمرك.. ويسقط الوقت من فلكه.. يعتزل ساعة الحائط وساعة يدك الموروثة عن جدك السادس التي ملّت نبض اليد ذاته، إنّه يتسارع مُتدحرجاً إلى المستقبل يحاول التّخلص من الجمع الكثير الواحد.. لا مزيد من الاستنساخ، لا مزيد من هذا الجد المتكاثر داخلك، لا مزيد من نصف شيء، لا مزيد من نصفك.
"لا تعلّموا أبناءكم على عاداتكم فإنهم مخلوقون لزمانٍ غير زمانكم" علي بن أبي طالب هذا الاستنساخ المسموم المُمتلئ بكثير منا، المنقول لأبنائنا طمعا في أن نرى فيهم ما لم نستطع إكماله.. هذا الاستنساخ معقود على قيد نِصف.. هذا المنقول هو نِصف، دعوهم يجابهوا الحياة بعيداً عن مواصفات ومقاييس قد لا تُسعفهم. لنترك لكلٍ منّا تلك المساحة الخاصة به، لنتوقف عن اقتصاص الآخرين وترقيع قطعهم علينا، لنفهم أن "أنت هو أنت ولا يمكن أن تكون غيرك"، دعك من نصف الآخرين ونصفك، مزّق كل نصفٍ رقعته وامضي.

إننا الآن وبعد مُضيّ الأيام ندرك تماماً أننا كلّما نضجنا وعرفنا من أين تؤكل الكتف، لا بدّ أن نشّق طريقين أحدهما نحو اعتزال الأنصاف وآخر يخلّصنا من الاستنساخ المُصمت. نحن الذين يخوضون الدوائر مُحتشدة الذين ما التزموا يوماً بالشّيء الواحد.. رفضاً للتكرار التململون منه، الباحثون عن الدّهشة، عن مكان يصرخون فيه بكلّ شغف: لقد وَجدتُني!

 
نصفُ صديق، نصفُ حبّ، نصف اهتمام، نصف شغف، نصف غضب، نصف شرّ، نصف جمال، نصف بصيرة وتطول القائمة.. اعتزل! هؤلاء كلّهم عالقون على أطرافك، هم فقط بين السّقوط منك والتّسلق عليك كاللّدغة، أنت في المُنتصف ولم يكُن يوماً منتصف الأشياء مركزها، حين تتقدّم خطوةً عن المنتصف فأنت على خيطٍ رفيع من الإدراك المجرّد من الضبابية المُنكشف على الحقيقة، هناك تعي تماماً أنك قد كنت بين حشدٍ ما مُغترب.
 
إنّني الآن أعي تماماً أن العزلة لم تكن مصطلحاً ذو معنىً وحيد، لم تكُن الزاوية الفارغة فقط أو الموسيقى القابعة في أذنيك المُنفصلة عن أصوات الواقع، إنّا نعتزل إلى الماضي وإلى المستقبل
إنّني الآن أعي تماماً أن العزلة لم تكن مصطلحاً ذو معنىً وحيد، لم تكُن الزاوية الفارغة فقط أو الموسيقى القابعة في أذنيك المُنفصلة عن أصوات الواقع، إنّا نعتزل إلى الماضي وإلى المستقبل

لن تعود.. نعم لن تعود بل تمضي بحثاً عن كمال يُرضيك، عن تربةٍ خصبة تُعطيك شجرةً كاملة وثمراً كاملاً لم تنل منهُ الظروف أو نقرات الطّيور، نعم أنت مصابٌ بالإدراك الآن، ستلعن كلّ شيءٍ أفرطت به في غير مكانه، أفرطت به تكراراً ..أفرطت به من أجل نصف.

إنّني الآن أعي تماماً أن العزلة لم تكن مصطلحاً ذو معنىً وحيد، لم تكُن الزاوية الفارغة فقط أو الموسيقى القابعة في أذنيك المُنفصلة عن أصوات الواقع، إنّا نعتزل إلى الماضي وإلى المستقبل.. الأمر متوقفٌ بالدرجة الأولى على كل تلك الأماكن التي كانت تربّت علينا من ثِقل الحياة، إنها في الصّور والذكريات أو المُستقبلُ الآت، الطموح في أماكن جديدة ورفقاء جدد وتفاصيل جديدة. إن الورقة لم تسقط عن شجرةٍ إلا لأنها اغتربت فاعتزلت، إن الطّير ما طار إلا اغتراباً في الأرض فاعتزلها، ذاك اللون الأبيض المُغترب الحزين في علبة الألوان الذي لا يريد أن يشبه غيره، لا يبحث عن منتصف ليعيش فيه. مهلاً نعيد التّفكير في الجملة السابقة، هل هو حقاً حزين؟!

"نصف شربة لن تروي ظمأك.. ونصف وجبة لن تشبع جوعك.. نصف طريق لن يوصلك إلى أي مكان.. ونصف فكرة لن تعطي لك نتيجة، النصف هو لحظة عجزك وأنت لست بعاجز.. لأنك لست نصف إنسان. أنت إنسان وجدت كي تعيش الحياة" جبران خليل جبران، لكلّ أؤلئك الذين ودّعناهم في منتصف الطريق الذين منحونا نصف جنون، الذين يقبلون بالرمادي.. قاتلوا نهايات القصص والروايات، المُتأرجحون الذين لا يستمرون ولا يقفون.. أؤلئك الذين يضبطون عطاءهم إلى النّصف، القانعون بنصف علاقة، العاقدون لصفقات fifty.fifty.

الذين لا يأتونك بكامل هشاشتهم.. الذين ما جابهوا بكل قوّة، المُكتفون بـ (React ) الفيسبوك إذا ما أرادوا التّعبير عمّا يجول في خاطرهم.. نحن الآن نعتزلكم. ثم يقول سيّدنا عُمر بن الخطاب: (اعتزل ما يؤذيك). أنا الآن أعتزلكم، نصفاً لا كمال فيه، أنا الآن أعتزل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.