شعار قسم مدونات

موقف السودان من الاعتراف والتعامل مع إسرائيل..

Blogs- sudan

اتسمت السياسة الخارجية السودانية منذ صبيحة الاستقلال وإلى يومنا بقدر كبير من الضبابية والتخبط، ولم تكن مصلحة الدولة هي الموجه للسياسية الخارجية كما يفترض ذلك وهناك الكثير من الأحداث والممارسات والحقائق التي تبين ذلك ولعل من ضمنها القطيعة السودانية مع إسرائيل أو بالأحرى موقف الحكومات السودانية التي تعاقبت على الحكم في السودان من إسرائيل.

   

في المنطق الطبيعي قبل أن يكون منطقاً سياسياً ليس هناك سببا منطقيا يجعل السودان في قطيعة دبلوماسية مع إسرائيل لهذه الدرجة من اللامعقولية ففي العرب السياسي والدبلوماسي المقاطعة في كثير من الأحيان سلبية وليست إيجابية لأنها ناتجه عن قصور وسعة إدراك سياسي وانسداد في الأفق وعدم قدرة على الاختراق والتأثير والفاعلية إن لم نقل غباء سياسي خاصة في في الموقف السوداني من التعامل مع إسرائيل خاصة وأن هذه القطيعة الدبلوماسية تفتقر للمبررات المتعارف عليها في حالات شبيهه إن وجدت.

 

ليس هناك جوار جغرافي ولا ماضي استعماري ولا منافسة لنفوذ ثقافي وحضاري تاريخي ولا صراع مصالح كذاك الذي يحدث بين الكبار في العالم، كما أن السودان ليس بالدولة المحورية في الصراع العربي الإسرائيلي لا سلماً ولا حرباً ويسهل اثبات ذلك بكل بساطه، باستثناء صور الإجماع العربي عموماً الذي تآكل فيما بعد ولا يزال حول هذا الصراع وتلك القضية، لا يمكن تصور وجود السودان في التفاعلات الساخنة لهذا الصراع، وإذا ما فتحت هذه القضية المعقدة للنقاش والتفاوض اليوم أو غدا لأن ستتولى هذا الملف دولاً مثل مصر وسوريا والمملكة العربية السعودية ولبنان بمنطق جوارها وتماساتها السياسية والجغرافية مع إسرائيل وحتى إذا ما وسعنا دائرة المشاركة سيأتي الدور على المغرب والعراق وتونس والجزائر وإن عملنا بالبعد الديني للصراع -ذلك الذي قاطعنا إسرائيل بسببه بحسب هوى النظام الحاكم- فسوف تدخل تركيا وإيران وربما إندونيسيا وباكستان ولن يجد السودان مكانا له في هذا المجلس الموسع أيضا، لانعدام الجدوى من مشاركته وفقدان أهليته بفضل ما يعانيه من تمزق وانقسام.

 

كل ما نريده هو علاقات طبيعية عادية ذات مصلحة متبادلة وتكتيك سياسي يحتاجها السودان لتحييد اللوبيات المعادية له ومنع الضرر

باختصار السودان ليس له وجود في  مجلس كهذا بصفة كهذه، وشخصيا أرى ذلك منطقيا جدا لأن السودان كما ذكرت "على الأقل في هذا الوقت" خارج دائرة النفوذ والتأثير الخاصة بقضية الصراع العربي الإسرائيلي أو "الإسلامي اليهودي" وللتدليل على ذلك -وعلى سبيل المثال – في 25 فبراير 2007 تباحثت عدد من الدول في إقامة جبهة مشتركة لحل المشاكل الإقليمية وإقامة تعاون سني في مواجهة الكتلة الشيعية الإقليمية التي تقودها إيران، والذي جاء بناءاً على دعوة من باكستان لم يكن السودان من ضمنها، وهو دولة سنية، حيث اجتمع وزراء خارجية من سبع دول سنية هي، باكستان، وتركيا، والمملكة العربية السعودية وماليزيا وإندونيسيا ومصر والأردن، فضلا عن أن السودان  هو الأعم على الإطلاق في نظري -تعيش به مجموعات وأقوام غير عربية تشعر بالاغتراب عن الدعاية التي تمارسها الأنظمة السياسية خاصة النظام الحالي.

 

هناك شعور قوي لدى تلك المجموعات وغيرها لا يمكن إخفائه يصيح بانعدام الجدوى من الوقوف في الصف العربي باستمرار وبهذه القدسية، وقد يفوق تعداد هذه المجموعات المجموعات العربية ذاتها وإن قل نفوزها لأسباب أو لأخرى، لذلك على الحكومة السودانية الآن أن تعي أن هناك حاجة ماسه بضرورة الزمان والمكان للتخلي عن هذا الخطأ الذي طال أمده وأن تعي بأن للسودان تركيبة بنوية وثقافية يجب أن يراعى لذاتها المختلفة، أولاً ومصالحها وتوظيفها استراتيجياً بوضع ملامح مفهوم خاص بها يعتمد على مركزيتها "مركزية السودان" كدولة ذات تركيبة مختلفة يجب أن تبني سياسات خارجية مختلفة لصالح هذا التنوع كضمانة استقرار داخلي وخارجي دون الحاجة للاشتباك مع -الغرق في كل ما هو عروبي وإسلامي خاصة وأن إسرائيل قد أثارت ولا تزال تثير المتاعب للسودان في مواقع عديدة أهمها تحريض وتحريك العناصر المناوئة للحكومات التي توالت على حكم السودان شرقا غربا جنوبا وشمالا.

  

الأمر الذي انعكس على حالة الاستقرار السياسي والتنمية الاقتصادية بل أنها لم تكتفي بذلك ففي الأعوام 2009، 2011، 2012، وصلت لحد قصفها لمدن سودانية شملت الخرطوم العاصمة ومدن أخرى، وإن كانت قمة العرب في الخرطوم في عام 1967، والتي كانت بالنسبة لإسرائيل بمثابة ناقوس الخطر قد خرجت وعرفت باللآت الثلاث الناجحة "لا تفاوض، لا تصالح، لا اعتراف"، فقد تلاشت تلك الاعتراضات واعترف العرب بإسرائيل وتفاوضوا وتصالحوا معها، إلا نحن في السودان لتتبدل لاحقا تلك الاعتراضات بخطة "الأرض مقابل السلام" وليس مقاطعة إسرائيل أو عدم الاعتراف وهي مقررات القمة العربية ببيروت عام ٢٠٠٢، ففي الوقت الذي حدث فيه ذلك بل وذاد فيه التعاون التجاري والاقتصادي والثقافي أحياناً بين إسرائيل وبعض الدول العربية بشكل ملحوظ، ترفض الحكومة السودانية وتحرص على ألا تقوم بأي خطوة مثيلة على الأقل برصيفاتها العربيات وكأنها تنتظر جائزة الدولة "الشريفة الطاهرة أو أكثر الدول كراهية لإسرائيل عالميا".

  

نحن كدولة وشعب أمضينا عشرات السنين نخسر في عدم إقامة علاقات خارجية متوازنة مع الدنيا ومع إسرائيل خاصة ولو بدرجة من المعقولية، تلك المعقولية التي ولو بشكل ما يجنبنا إعاقة أممنا وعيشنا
نحن كدولة وشعب أمضينا عشرات السنين نخسر في عدم إقامة علاقات خارجية متوازنة مع الدنيا ومع إسرائيل خاصة ولو بدرجة من المعقولية، تلك المعقولية التي ولو بشكل ما يجنبنا إعاقة أممنا وعيشنا
 

أو أن يأخذ زعيمها "جائزة الكرامة العربية" مثلما حصل على الإفريقية مؤخرا"، فإن كانت الدول صاحبة -الجلد والرأس- كما نقول نحن في السودان مصر وأردن الهاشميون وغيرهم قد وقعوا الاتفاقيات الاستراتيجية وبروتكولات التجارة والسياحة وهناك قطر والسعودية والمغرب تتعامل بشكل أو بآخر مع فلماذا حرام علينا نحن؟ وهنا فلنتساءل كيف أن واصل العرب شراكتهم مع إسرائيل إلى أبعد من ذلك؟ وكيف أن أصبحت إسرائيل نفسها جزءاً وعضواً في منظومة إقليمية جديدة تجمعها والمنطقة والعرب؟ مثل مشاريع الشرق الأوسط القديمة "شمعون بيريز" أو المشاريع المستقبلية كخطة "ترمب -ابن سلمان" التي يتحدث البعض أنها قيد التشكل، حينئذ كيف سيكون موقف الحكومة السودانية؟ 

 

أخيرا نحن كدولة وشعب مثله مثل بقية دول وشعوب الأرض أمضينا عشرات السنين نخسر في عدم إقامة علاقات خارجية متوازنة مع الدنيا ومع إسرائيل خاصة ولو بدرجة من المعقولية "تلك المعقولية التي ولو بشكل ما يجنبنا إعاقة أممنا وعيشنا" وما إسرائيل إلا دولة مثلها مثل بولندا والتشيك وأستراليا وبالرغم من خسارتنا تلك فنحن لا نطالب بالاعتذارات أو بقائمة من التعويضات ولا بتشكيل هيئة وطنية للتحقيق في هذا القصور المتعلق بهذه القضية، ولا نقول نريد علاقات استراتيجية حتى لا نثير جدلية الدين والسياسة في هذه القضية، وحتى لا نثير أيضا فوضى العامة، لأن مصائرنا ومصالحنا الخارجية لا يمكن أن تحددها هيئة علماء السودان ومجالس الإفتاء.

 

كل ما نريده هو علاقات طبيعية عادية ذات مصلحة متبادلة وتكتيك سياسي يحتاجها السودان لتحييد اللوبيات المعادية له ومنع الضرر، وتأمين التواصل الإنساني الطبيعي وفي البحث عن ما تكسبه إسرائيل كمنفعة متبادلة لا يمكن على الإطلاق أن نورد ما ظل يتوارد وبكثافة وبشكل يشبه حالة الإجماع عند الكتاب السودانيين والعرب في أن إسرائيل في علاقتها بالسودان أو غيره فقط تهدف للخروج من طوق العزلة العربية أو كبوابة مرور إلى إفريقيا، فقد ولى ذلك من زمن بعيد لدرجة أن إسرائيل لديها من البعثات الدبلوماسية في إفريقيا والعالم ما يفوق السودان بمراحل.

 

يمكن للسودان الاستفادة من التحولات والمتغيرات السياسية الجديدة في المنطقة واستثمارها في سياق التعامل مع إسرائيل، والأخذ بالنموذج التركي في العلاقة مع إسرائيل فهي دولة "إسلامية" يشكل الإسلام الدين الرسمي لمعظم سكانها تقريبا، ومع ذلك فهي من أوائل الدول التي اعترفت بإسرائيل، والتي بنيت وفقا للمنطق الطبيعي والسياسي لمحددات الأمن القومي في السياسة الخارجية تتمثل ولا تزال في ظروف عدم الاستقرار السياسي الإقليمي " قضايا الأرمن والأكراد والقضية القبرصية والنزاعات في الدول المجاورة".

 

مع ذلك وقعت مع إسرائيل بدءاً من العام 1994، اتفاقيات عديدة ومتعددة ترقى إلى مستوى العلاقات الاستراتيجية رغم الاحتفاظ بالعداء الوجودي التاريخي وعدم الثقة المتبادل، وبذلك مثلت تركيا "المنطق السليم" والعقل السياسي الناضج في التعامل مع هذه القضية بشكل حافظ على مصالحها السياسية وفي الوقت نفسه مصالح القضية الفلسطينية في ذلك الصراع، حيث دعمت تركيا ولا تزال جهود السلام مستمرة، وقفت إلى جانب الشعب الفلسطيني في مناسبات عديدة، لم يقف مثلها أي طرف عربي آخر بما في ذلك السودان رغم عدائه الصريح لإسرائيل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.