شعار قسم مدونات

حازم صلاح أبو إسماعيل.. عبقري لم يقدُره قومه

Hazem Salah Abu Ismail (R), a Salafist leader and presidential candidate, speaks during a campaign rally at Cairo University March 27, 2012. The presidential election will be held on May 23 and 24. REUTERS/Mohamed Abd El Ghany (EGYPT - Tags: POLITICS ELECTIONS)
حديثي في هذه الكلمات عن شخصية أعدها من الشخصيات المعاصرة الفريدة من نوعها. لا أجازف إن قلت إنه رجل لا كالرجال، أو بتعبير أدق، "رجل في زمن قل فيه الرجال"، وافقني الرأي أو لا توافقنيه. دافع حديثي عن هذه الشخصية أنها بقدر شهرتها مهضوم حقها بكيفية تتقطع لها الأكباد.
رجل متدين على الثقافة الإسلامية الأصيلة، مثقف ومفكر عميق، اهتم بمشاريع الدعوة والثقافة الإسلامية منذ نشأته، سياسي خبر دهاليز السياسة منذ نعومة أظافره، وترشح لعدة مناصب سياسية، وكان من أشد معارضي حكومة الرئيس المصري المخلوع، قانوني مشتغل بالمحاماة منذ أكثر من عشرين سنة في شتى فروع القانون العام والخاص مما جعله من فقهاء القانون المتمرسين.

رجل محبوب لدى الجماهير حتى لدى مناكفي التيار الإسلامي، إنه د. محمد حازم صلاح أبو إسماعيل، الشريف المناضل المسجون في سجون الظلم والطغيان منذ ما يقارب أربع سنين ونصف. لست بصدد الترجمة للدكتور حازم أو ذكر مناقبه فأنا لست هنالك، لكني أحببت رصد مواقفه وتحركاته في مدة السنتين الوجيزتين منذ ثورة يناير المصرية إلى سنة اعتقاله إثر الانقلاب العسكري، ذلك بالإشارة إلى استثنائية عبقريته ونضجه السياسي والفكري الذي لم يلق مع الأسف استجابة أو حتى التفاتة يسيرة من النخب السياسية بشتى أطيافها حتى الإسلاميين، وإلى تحليلات وتنبؤات هذا الرجل، تلك التي لو أٌخذت محملَ الجد لرسمت خريطة مغايرة لمصر لولا مشيئة الله النافذة.

الشيخ حازم لم يكن مرتاحاً لتخطيطات وتحركات العسكر، وكان دائماً يشير إلى ذلك، إلى أن خرج
الشيخ حازم لم يكن مرتاحاً لتخطيطات وتحركات العسكر، وكان دائماً يشير إلى ذلك، إلى أن خرج "السيسي" القائد العام للقواة المسلحة آنذاك وشرع في التلميح للشعب أن يعولوا على الجيش

سأذكر ثلاثة مواقف لشخصيتنا بشأن مستقبل بلاده تبين لنا أن هذا الرجل كان له وعي استثنائي بالمرحلة الانتقالية التي كانت تعيشها بلاد مصر، سيتبين من خلالها ومن خلال تنكر الأطياف السياسية لها أنه فعلاً رجل غريب بين قومه. ومع الأسف لم يُلتفت إليه حتى وقع الفاس في الراس كما يٌقال، وتحققت تنبؤاته وتحليلاته.

الموقف الأول هو "دعوته لتعجيل الانتخابات الرئاسية بعد الثورة"، حيث كانت سلطة البلاد حينئذ في يد العسكر بشكل انتقالي ووعد بتسليمها بإقامة الانتخابات بعد مدة لا تتجاوز ستة أشهر. لكن الشيخ حازم بحصافته السياسية كان متوجساً من غدر العسكر، وكان يدرك أنه سيراوغ من أجل الاستئثار بسلطات الدولة، لذلك أصر على التعجيل بالانتخابات وبأن تكون قبل التصويت على الدستور.

وهنا انبرت كثير من الأحزاب السياسية والتيارات بغباء سياسي منجلٍ إلى استهجان فكرة الانتخابات قبل الدستور متعللين بالخوف من صعود رئيس يجعل لنفسه صلاحيات غير محدودة في الدستور الذي سيوضع أثناء حكمه. لكن غاب عنهم وحضر عند حازم -وليس الأمر بغيريب- أن المجلس العسكري هو الذي "سيسلق" الدستور ويقيد صلاحياته لصالحه ضد أي رئيس يُنتخب، حينئذ تكون الصلاحيات الحقيقية لدى المجلس العسكري ويكون الرئيس لعبة في يده.

لمزوا الشيخ حازم بأسطوانة "أخونة الدولة"، مع أنه لم يسبق له أن انتمى للإخوان المسلمين تنظيمياً. فتركوه وحيداً يندد ويحذر ولم ينبس أحد ببنت شفة

ثم كانت المفاجأة أن أصدر المجلس العسكري بيانا يفيد فيه أنه باق على السلطة لمدة سنتين بدل ستة أشهر، متعللين بعدم استقرار أوضاع البلاد. تحققت هواجس الشيخ حازم فعلاً، فشرع في سبيل ذلك بخوض معركة ضارية وحده تقريبا مقابل تخاذل الأطياف السياسة، وانخرط في مظاهرات حاشداً أنصاره إلى أن ضغط على المجلس العسكري وأعلن المشير طنطاوي ضرورة تبكير الانتخابات.

الموقف الثاني، والذي لا يقل انبهاراً عن الأول: دعوته للقوى السياسية وللحشود الشعبية بعدم مغادرة ميدان التحرير حتى بعد خلع حسني مبارك، وأنه لا يجب أن يُؤتمن العسكر، مشيراً إلى أن الأوجب هو البقاء حتى تُسقط جميع رؤوس الفساد في أجهزة الدولة وتتحقق أهداف الثورة. ولم يفتأ يؤكد على أن الوسيلة الوحيدة لتحقييق هذه الأهداف هو ببقاء الشعب واقفاً على قدميه وعدم تسليمه أمر البلا إلى أي جهة معينة. لكن القوى السياسية رمته بالتوجس الزائد، وأن الأمر أهون من ذلك. ثم بعد ذلك حدث مع أشرت إليه في النقطة السابقة من تكالب المجلس العسكري على السلطة بعد سبات الأحزاب السياسية.

أما موقفه الثالث، فيعجب المرء أشد العجب والله من شدة ألمعيته في مقابل دروشة وسذاجة الشخصيات السياسية الأخرى بلا استثناء. هذا الموقف تمثل في دعواته المتتالية إلى ضرورة التغيير الجذري لجميع مؤسسات الدولة التي طالها الفساد، وعلى رأسها الداخلية وجهاز القضاء. وقد استمر في الدعوة إلى ذلك في أثناء حكومة الدكتور محمد مرسي -فك الله أسره-، وأبدى تعجيه وتنكره الواضح من هذا الصمت وغض الطرف عن كل هذا الفساد المستفحل وكأن الثورة أتت لخلع رأس الفساد فقط وترك جسده المتعفن ينخره الدود إلى العظم!

وطبعاً لما أحس المرتزقة وأصحاب المصالح بخطورة دعاوى أبي إسماعيل، ألبوا عليه أجهزة الإعلام بصنوفها متهمينه بمهاجمة القضاء الشامخ! والجيش العتيد المتكون من خير جنود الأرض! فأقاموا الدنيا عليه ولم يقعهدوها.. ولمزوه بأسطوانة "أخونة الدولة"، مع أنه -وياللمفارقة- لم يسبق له أن انتمى للإخوان المسلمين تنظيمياً. فتركوه وحيداً يندد ويحذر ولم ينبز أحد ببنت شفة، حتى الحزب الحاكم ذو الأغلبية البرلمانية!

 

مثل الشيخ حازم نموذج الوعي السياسي العميق في مقابل الدروشة السياسية الساذجة، ونموذج الفكر والدعوة الإسلامية المثقفة القائمة على بصيرة في مقابل السطحية
مثل الشيخ حازم نموذج الوعي السياسي العميق في مقابل الدروشة السياسية الساذجة، ونموذج الفكر والدعوة الإسلامية المثقفة القائمة على بصيرة في مقابل السطحية
 

أما موقفه الذي سأختم به، والذي بقي غصة في حلق المصريين حتى من ناصب له العداء من قبلُ، لكن تبين له أن الرجل كان أعقل وأيقظ من كل النخب السياسية عن بكرة أبيها بلا مبالغة تذكر. أقصد تنبؤه بالانقلاب العسكري على الرئيس المنتخب "محمد مرسي". يستطيع المرء أن يستشف من عموم مواقفه وكلامه أن الشيخ حازم لم يكن مرتاحاً لتخطيطات وتحركات العسكر، وكان دائماً يشير إلى ذلك عرضاً في لقاءاته الإعلامية، إلى أن خرج "السيسي" القائد العام للقواة المسلحة آنذاك وشرع في التلميح للشعب بخطاب له أن يعولوا على الجيش.

فخرجت الصحافة المأجورة تكتب مقالات في هذا الاتجاه "عولوا على الجيش"، "اعتمدوا على الجيش"، "الجيش هو الأمل".. وصاروا يتحدثون في الإعلام عن نزول الجيش لينقذ البلاد عند الضرورة. فانبرى الشيخ حازم وحده معتمدا على كلام الجيش ومجموعة من القرائن إلى التأكيد على أن هذا جريمة واضحة تمثل انقلاباً على الدستور، وأن هنالك انقلاب يلوح في الأفق، لكن لم تسعفه الحكومة ولا الكتل السياسية، بل رموه بالمبالغة وسوء الظن بالجيش.

عند تأملي لمواقف حازم أبي اسماعيل، لا أجد قصة تجسد معاناة الرجل مع قومه إلا قصة الشاعر "دريد بن الصمة" مع قومه حيث يحكي خذلانهم وصدهم عنه بعدما نبههم للخطر القريب، فقال في أبياته التي تقطر ألماً:

أمرتهم أمـــــري بمنعرج اللــــوى *** فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغـدِ
فلما عصوني كنت منهم وقد أرى ***  غوايــــتهم وأننـــي غير مهتـــــدِ
فمـــــا أنا إلا من غزيةَ إن غـــوت *** غويــت وإن ترشد غـــزيـةُ أرشـــــدِ

قد مثل الشيخ حازم -فك الله أسره- نموذج الوعي السياسي العميق في مقابل الدروشة السياسية الساذجة، ونموذج الفكر والدعوة الإسلامية المثقفة القائمة على بصيرة في مقابل السطحية والغفلة أو الاندفاع العنتري غير المدروس، ونموذج النضال ضد الطغيان في مقابل المداهنة أو غض الطرف وإفاء الرأس في الرمل. وعزاؤه أنه ليس الوحيد الذي صد عنه قومه حين أراد لهم النجاة، بل هي سنة تكاد تكون مطردة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.