شعار قسم مدونات

تجربة بافلوف البشرية

blogs- united state

الوعي هو من أهمِ الأمور التي تنقصنا كشعوبٍ عربيةٍ تسعى للنهوضِ بعدَ عثراتٍ وعثرات، لقد تخلفنا عن ركبِ الحضاراتِ سنيناً طوال وحانَ الأوانُ لنعودَ كما كنا أمةً قادرةً على القيادة والسيادة. الوعي يتناسبُ طرداً مع السقوطِ إلى الحضيض، فكلما زادَ الوعيُ ارتقينا بأنفسنا للأعلى والعكسُ صحيح، فلا مهربَ لنا من مواجهةِ تلكَ الحقيقةً التي تُعتبرُ الركيزةَ الأولى في قاعدةِ النهضة.

  
لا أؤيدُ نظريةَ المؤامرةِ فهي شماعةُ اليأسِ وحجةَ التهاون، لكن لا أنكرُ أيضاً تربصَ العدوُ بنا وتخطيطهُ المنظم للإبقاءِ علينا في تذييلِ الترتيبِ العالميِ لكل شيءٍ من تعليم وصناعة وقوة عسكرية واقتصادية الخ، لكن ينبغي علينا ألا ننسبَ كل فشلنا لتلك التخطيطات فما نفعلهُ بأيدينا أشدُ خطراً مما يفعلون.

 
في عقليتنا كمسلمين نرى في بعضِ الكلماتِ والمصطلحاتِ والممارساتِ نجاةً لنا وشعلةَ نورٍ فنسعى لها ونعضُ عليها بالنواجذِ والأنياب، وهذا شيءٌ جيدٌ وحَقٌ لنا ولكن مع قلةِ الوعي الموجود عند غالبيتنا جعلَ من هذهِ النقطةِ إحدى النقاط التي هي كالسيف في الخاصرة، وهي بمثابة نقطةُ ضعفٍ لأنها لم تُوظف بشكلٍ صحيحٍ ورافقها الكثيرُ من الجهل على الرغمِ من قدسيةِ الكلماتِ التي نتبعها وثقلها في الأذهان، وهناك العديدُ من الأمثلة على ذلك كمثال الخلافة الإسلامية التي كانت حلم أغلب الشعوب المسلمة أما الآن فباتت -مع الأسف- ترى فيها تهمةً وخطر.

 
لعبتْ داعش بقرارٍ خارجيٍ وتخطيطٍ محكم دوراً في استقطاب الكثيرِ الكثير من الشبابِ الصادقينِ حولَ هذهِ الكلمةِ فقط، لقد عرفتْ أنها تمسُ قلبَ كل مسلم فكانت هي كلمةُ سرِ العبورِ لعقولنا والطعمَ الذي استُخدِمَ لتجميعِ عددٍ لا يُستَهانُ به من الشبابِ والكفاءاتِ العربيةِ والأجنبيةِ المسلمة، واستمرتِ التجاربُ ليس فقط هذا اللفظ، فالعديد من الكلماتِ التي تمسنا كمسلمينَ تُستَخدَمُ ضِدنا ونحنُ كالأعمى والأصم، وبكلِ قلةِ وعيٍ نفرحُ بالكلمةِ نفسها أكثر من تطبيقها الحقيقي. أوجدوا الكلماتِ وجردوها من معناها الحقيقي ثم أضافوا لها أفكاراً تناسبُ هواهم ثمَ أنزلوا منها نسخةً تجريبيةً إلى أوطاننا، فحققتِ النسخة تلك نتائجَ مبهرة.

       

لا الخلافة خلافة ولا الدولة دولة ولا تطبيق شرعُ اللهِ هو حقاً كذلك، كلها شعارات رنانة تأسرُ قلوبنا وتأخذ بعقولنا والألباب فنسيرُ كمن يمشي في نومهِ مسلوبي الإرادة لا ندري إلى أين نُقاد ولا نشعرُ بأنفسنا إلا بوسطِ المصيبة فلا نعرفُ طريقاً للخروجِ لا نستطيعُ أكمالَ السيرِ ولا العودةُ لنقطةِ الصفر، لتلكَ الكلماتِ وقع خاص في آذانِ وقلوبِ الكثيرينَ منا، نسترجعُ بسماعها العزةُ والمنعة والصدارةُ العالمية في كل المجالات، العدل، القوةُ والهيبة الإسلامية فتغلبُ أحلامُنا واقعَنا وننسى أن المصطلحات وحدها لن تعيدنا كما كنا وإنما العلمُ والعملُ هما جناحانِ استردادِ ذلك المجدَ الذي أخذناهُ بحقٍ لقرون.

 

ألبسوا الكلماتَ الإسلاميةَ ثوبَ العنف والهمجية، وجعلت الكثيرين ينفرونَ ويخافونَ حتى من نطقها أحيانا، فتراهم يربطونها بالقتلِ والدماءِ أكثرَ من ربطها بالعدل رغم أنها للعدل أقرب
ألبسوا الكلماتَ الإسلاميةَ ثوبَ العنف والهمجية، وجعلت الكثيرين ينفرونَ ويخافونَ حتى من نطقها أحيانا، فتراهم يربطونها بالقتلِ والدماءِ أكثرَ من ربطها بالعدل رغم أنها للعدل أقرب
 

يجبُ أن نعلمَ أنهُ أيضاً لسنا الوحيدينَ الذينَ خُدعنا بتلكَ الكلمات، اسُتخدمتْ هذهِ الكلماتُ بحنكةٍ فأصابتْ عصفورين بحجرٍ واحد، استقطبتْ الشبابَ المسلمَ ذوي أحلامٍ وقدراتٍ عاليةٍ ورمتهم في مِحرقةِ داعش فحرقتهم وتخلصت منهم، وفي ذاتِ الوقت جعلتْ هذه الكلمات وكأنها وحشاً فترساً بالنسبة للآخرين، وإن مجردَ ذكركَ لتلك الكلماتِ فقد توضح بأنك "تدعشنت" وكأنها كلماتٌ أتَتْ بقدومِ داعش وليست هي من أصلِ الدينِ الإسلامي الحنيف، بمعنى أنهم قد ألبسوا الكلماتَ الإسلاميةَ ثوبَ العنف والهمجية، وجعلت الكثيرين ينفرونَ ويخافونَ حتى من نطقها أحيانا، فتراهم يربطونها بالقتلِ والدماءِ أكثرَ من ربطها بالعدل رغم أنها للعدل أقرب.

  
بعد أن نجحوا بتدميرِ الرموزِ وتشويه القُدواتِ الإسلاميةِ عن طريقِ تزويرِ التاريخِ بمساعدةِ الكثير من الحكامِ وبواسطةِ إعلامهمِ، دخلوا كالسوسِ للنخرِ في صميمِ الدين، فأقنعوا الجميعَ بواسطةِ الألعابِ السياسيةِ والإعلامِ بأن الخلافةَ تتمثلُ في داعش التي تقتلُ وتحرقُ وليست في دولة الأمويين التي ملأتِ العالمَ عدلاً وإحساناً وكرامة، والخليفة يتمثلٌ في البغدادي وليسَ في ابن الخطاب أو عمر بن عبد العزيز رضي الله عنهما وأرضاهما.

  
لقد فعلوا بنا كما فعل "بافلوف" من قبل، لجئوا لطريقةِ الروابط الذهنية، حتى إذا ما سمعتَ أو رأيتَ أي مشهدٍ إسلاميٍ فبشكلٍ تلقائيٍ ودونَ أيةَ إرادةٍ أولَ ما يخطرُ بالبالِ هو داعش والإرهاب فكانت تجربةً كتجربةِ بافلوف ولكنها مطبقة على أشخاص بشريين. وتحقيقا لمبدأ التفكيرِ ونشرِ الوعيِ ولإيجاد الحلول فالنظرُ في واقعِ الآخرينَ ربما يكونَ لهُ آثاراً إيجابيةً ونقاطَ ارتكازٍ نسقطها على تجربتنا فتنفعنا كما نفعتهم إذ لسنا الوحيدينَ الذينَ نضعفُ أمامَ جماليةَ الكلماتِ ونُؤخذ بالعواطفِ وتأسُرنا الشعاراتُ فكم من شعبٍ عاشَ تحتَ أنقاضِ حلمِ كلماتٍ كالحريةِ، الديمقراطيةِ وتكافؤ الفرص، وفي النهايةِ رأى عكس ذلك، لكنهُ بالعلمِ والوعي تجاوز أحلامَ اليقظةِ تلك ونالَ ما يحلم وبعضهُ ما زالَ يعيشُ في الحلم.

  
إن هذهِ هي إحدى الألعاب السياسية ولا نجاةَ منها إلا بنفضِ غبارِ الجهلِ وزرعِ العلم والوعي في العقول، والأهم هو تربية جيل قادر على التحكم بمشاعره يُعمل عقله قبل قلبه، ويؤمن بجوهرِ الأمورِ أكثر من إيمانهِ بشكلها وقشرتها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.