شعار قسم مدونات

المجتمع الديموقراطي.. كيفما تكونوا يولى عليكم

blogs - ديمقراطية

إن من بين أهم القضايا التي تشغل الكثير من المجتمعات اليوم والتي كانت محسوبة على ما أطلق عليه ألفريد سوفيه بـ"العالم الثالث" هي قضية تحقيق المجتمع الديموقراطي. لأن هذه المجتمعات تعي تخلفها وتقهقرها في مقابل الدول الصناعية التي حققت ريادتها منذ قرون عدة. وقد تضاربت وجهات النظر واختلفت حول المسألة منذ بداية التغلغل الاستعماري على العالم العربي خصوصا لدى الإنتلجنسيا التي كانت في أغلبها ذات طابع قومي اشتراكي.

 

لذلك ارتبطت هذه المسألة لدى النخب بأنها مسألة سياسية أساسا، لذلك كان الطريق الذي اتبعه الكثير من الزعماء هو طريق الكفاح الوطني السياسي، واعتبرت أن مسألة تحقيق المجتمع المتقدم رهينة بتحقيق ثورة سياسية تدك أركان الأنظمة المستبدة وتقيم دولة متقدمة وديموقراطية. لكن ما لا يلتفت إليه الكثيرون هو أن المسألة ليست مسألة سياسية فقط، بل إنها مسألة جد معقدة ومتشابكة لأن مجالها أعم مما هو سياسي، فهي وإن كانت مرتبطة في أوجه من أوجهها بقضية النظام السياسي من حيث كونه الجهاز الذي يدبر شؤون المجتمع في إطار الحدود الوطنية التي نص عليها الفكر السياسي الليبرالي وهو ما يدل عليه مفهوم الدولة-الأمة. فإن هذا النظام في نظري لا يحكم إلا وفق آليات واستراتيجيات تجد مقبوليتها ومشروعيتها لدى أفراد هذا المجتمع، وإلا فإن كل حكم لا يتخذ هذا المنحى لن يستقيم ومصيره الزوال حتى وإن طال تجبره وقبضته الحديدية.

 

في نهاية المطاف فإن كل جهاز حاكم لا يمثل سوى بنية المجتمع وثقافته وهذا ما يلخصه الحديث "كيفما تكونوا يولى عليكم" أو كما قال دوطوكفيل "كل شعب ينال الحكومة التي يستحقها"، فلو أحضرت على سبيل المثال أفضل الحكومات ووليتها شؤون قوم لن تستقيم أحوالهم، ولن يتحول المجتمع الغارق في تخلفه إلى مجتمع ديمقراطي بمجرد تولي هؤلاء لشؤونه، لذلك كثيرا ما سقطت هذه الأطروحات الاختزالية، التي تختزل مسألة الديموقراطية في جانب واحد دون سواه في مغالطات تاريخية لا تدرك عمق اللحظة الزمنية، لأنها لا تضع في حسبانها أن المسألة متداخلة ومتشابكة بقدر يصعب معه الجزم بأن أي تحول ديموقراطي منوط بانقلاب سياسي.

 

الحكومات التي تولي أمورنا لم تنزل من السماء علينا. فهم أبناء الوطن نفسه، لهم نفس ثقافتنا ومعاييرنا وعاداتنا إنهم نتاج نفس المنظومة المجتمعية
الحكومات التي تولي أمورنا لم تنزل من السماء علينا. فهم أبناء الوطن نفسه، لهم نفس ثقافتنا ومعاييرنا وعاداتنا إنهم نتاج نفس المنظومة المجتمعية
 

لذلك استغرق تاريخنا السياسي مددا طويلة في سلسلة طويلة من الانقلابات السياسية، سواء على شكل ثورات "شعبية عارمة" ونضع المفهوم بين مزدوجتين لأنه يطرح بدوره أكثر من إشكال. أو من خلال الانقلابات العسكرية أو تولي النخب السياسية ذات الشرعية الانتخابية للمسؤولية، كل ذلك لم يفرز مجتمعا ديموقراطيا حقيقيا. المسألة إذن ليست مسألة اقتراع أو انتخاب أو دستور أو مؤسسات، إنها بالمقابل مسألة تاريخية وثقافية بشكل رئيسي. إنها كما يقول عبد الله العروي في خواطر الصباح تستوجب ضرورة التساؤل "في أي عصر نعيش؟ هذه هي المسألة الحاسمة. ماهي النظرة العامة، أي المقبولة لدى سكان الأرض، باعتبارها ناتجة عن النظر والملاحظة والتجربة؟"

 

إن أي تحول حقيقي لابد أن يرتبط بتحول الأفكار التي يحملها الأفراد حول أنفسهم ولابد كذلك من تغيير النظرة التي ينظرون بها إلى العالم

ألا تستوجب اللحظة التاريخية التي نمر منها، والإخفاقات الجمة التي نتخبط فيها، وكم المآسي الهائلة التي تعصف بنا وبثقافتنا وأوطاننا أن نطرح على أنفسنا تلك الأسئلة الحارقة: كيف السبيل للنهوض بأوطاننا؟ أليست الثورات السياسية التي قمنا بها مجرد رد فعل عن الظلم الذي مارسته علينا الأنظمة التي حكمتنا، وبالتالي لم تكن نتائجه محسوبة منذ البداية؟ ونحن نرى ذلك صباح مساء: قتل وتهجير ولجوء ومجاعة وطائفية وغيرها. والأمور لا تزداد إلا سوءا وتأزما يوم بعد يوم؟

 
إن هذه الأسئلة هي التي يجب أن يطرحها الأفراد على أنفسهم كي يجدوا أن الجواب عنها ليس قطعا نظرية المؤامرة التي يعتبرها البعض الجواب الحاسم والشامل لكل مشاكل المنطقة وقضاياها. قطعا لا وإن كانت المؤامرة فعلا فهي ليست بالشكل المرضي الذي يعتقده الكثيرون منا. إن المشكلة فينا نحن الأفراد، فالحكومات التي تولي أمورنا لم تنزل من السماء علينا. فهم أبناء الوطن نفسه لهم نفس ثقافتنا ومعاييرنا وعاداتنا إنهم -أي الحكام والمسؤولين- نتاج نفس المنظومة المجتمعية التي نعيش أزمتها. لذلك فالتغيير الذي يجب أن نفكر فيه اليوم هو تغيير يرتبط بنا نحن دون سوانا. أي أن نغير نظرتنا لأنفسنا ولثقافتنا وللعالم من حولنا. ونعيد النظر في الثوابت والقيم الثقافية التي تكبل إرادتنا وتحررنا. وهذا التحرر ليس تحررا من استبداد الأنظمة فقط، بل تحرر من أنفسنا أولا ومن العوائق الداخلية التي تكبل فعلنا وإنجازاتنا.

 

إن هذه المسألة التي نتحدث عنها قد مرت منها كثير من المجتمعات المتقدمة التي كانت إلى الأمس القريب غارقة في أوضاع لا تختلف عن أوضاعنا إن لم تكن أسوأ منا في بعض الحالات. لكن إرادة الشعوب، التي واكبتها ثورات فكرية وثقافية، اضطلعت بها نخب المجتمع، أو أحيانا أخرى وجود زعماء حقيقين دشنوا النهضة. لذلك فإن أي تحول حقيقي لابد أن يرتبط بتحول الأفكار التي يحملها الأفراد حول أنفسهم ولابد كذلك من تغيير النظرة التي ينظرون بها إلى العالم، وهذه المسألة ليست مسألة سياسية فقط إنها مسألة ثقافية أساسا لذلك فتغييرها يستوجب نشر ثقافة جديدة متصالحة مع التاريخ، ثقافة تؤمن بالحاضر وليست ثقافة منغمسة في أتون الماضي، لذلك فالوسيلة لذلك رهينة بنشر فكر جديد لمجتمع جديد. وأول خطوة نحو ذلك تلخصه الآية التالية "إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.