شعار قسم مدونات

تفاصيل دمشقية في عيد المولد

Blogs- syrian

دمشق في عيد المولد النبوي الشريف هي غيرها فيما سواه من الأعياد، إذ لا يُفوّت الدمشقيون فرصة الاحتفال بهذه المناسبة، فلأجلها غنّى المنشدون، ورقص الدراويش، وزُينت الساحات، وأُضيئت الشوارع، ووُزعت الحلوى.

 

"المولد" احتفالٌ ديني يقام في 12ربيع الأول (أحد الأشهر الهجرية) من كل عام، بمناسبة مولد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وهو عادة ليس لها أصل في الدين الإسلامي ولكن يفعلها الدمشقيون -كما غيرهم من المسلمين- تحبباً لسيد الخلق وتعظيماً ليوم مولده. يحتفل رجال دمشق في مساجدها، فيما تحتفل النساء في بيوتها. ويحضر حفل المولد النبوي في المسجد رئيس الدولة، وهذا تأكيد على أهمية عيد المولد في سوريا، فهو ليس حدث ديني عابر، بل هو حدث شعبي استجابت له السلطات فجعلت الاحتفال به عيداً رسمياً، وجعلت من يومه عطلة قانونية.

       
كما يُشارك علماء الدين الإسلامي في هذا الاحتفال، بل ويُسهمون في تنظيمه، وبرأيهم أن الإسلام شَرَعَ للمسلمين الفرح والاحتفال بمولد طفل أو طفلة، ومن باب أولى فرح البشرية كلها بميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم. يصرف الدمشقيون وقتهم في اليوم السابق ليوم المولد النبوي الشريف في التحضير لطقوس الاحتفال. حيث يذهب الرجال لسوق البزورية الشهير في قلب دمشق القديمة لتسوق "الملبس"، وهو من أشهر أنواع الحلويات التي تقدم في ذكرى المولد، والذي اشتق اسمه من كلمة (لَبِسَ) أي (ارتدى)، أي تغليف وتلبيس حبّات اللوز المحمص بالسكر ورشها بماء الورد، وهو لا يحتوي على مواد حافظة، لذلك يفسد بعد أن يمضي على إنتاجه أسبوعاً واحداً فقط.

      

تتباهى دمشق باحتفالات عيد المولد، ففي هذا اليوم من كل عام يتساوى أغنياؤها وفقراؤها ومحدودي الدخل فيها، يتشاركون معاً في تفاصيل احتفالية واحدة، ويُقدمون حلويات يقدر على شراءها الجميع مهما ضاق حالهم

وعملية البيع والشراء هنا تستنفذ الوقت، فعلى ربّ الأسرة تخيّر أفضل أنواع هذه القطع، فتكون طعمة اللوز غير مرّة وطبقة السكر رقيقة. وتُمضي النساء وقتها في المطبخ تُعد طبق "المحلاية"، وهو نوع من أطباق الحلويات الباردة، يُصنع من الحليب المطبوخ، ثم يُترك حتى يبرد، ويُزيّن بالفستق الحلبي واللوز والقشطة. ويعتقد الدمشقيون بأهمية طهي وجبة بيضاء في المناسبات الدينية، سواءً كانت نوع من أنواع الحلويات أو طبق طعام رئيسي، فكما يُقدمون في المولد النبوي طبق المحلاية، يستقبلون السنة الهجرية بأكلات دمشقية معروفة تطهى باللبن الرائب، كالكبة بلبنية وشيخ المحشي والشاكرية، أو حلويات دمشقية تطهى بالحليب، كالمحلاية والبالوظة والهيلطية.

     
وفي المساء يقوم الشباب بتزيين الطرقات بالأضواء والأعلام، فيما تقوم الفتيات بلف قطع "الملبس" في أوراق من السولوفان (صْرر باللهجة الشامية). وبعد هذا اليوم الطويل، يستيقظ أهالي دمشق صباح عيد المولد على أنغام المدائح النبوية تصدح من بيوت دمشق ومحلاتها التجارية، ينظفون بيوتهم ومساجدهم ويُعدوها لاستقبال الاحتفال الكبير. ولأصحاب المحلات التجاريّة -التي تكثر في دمشق- دوراً بالغ الأهمية في إضفاء أجواء المولد النبوي على المدينة، فهم من يتولون مهمة تسميع أهل المدينة الموشحات الدينية، وهمن يبادرون منذ صباح يوم المولد إلى توزيع صرر الملبس والحلويات الدمشقية، وكل ذلك بقناعة شخصية ومبادرة ذاتية تنسجم مع عادات المجتمع وقيمه الأصيلة.

       
يُقام الاحتفال عادةً بين صلاتي المغرب والعشاء، وبعد إقامة صلاة المغرب في جماعة، يُفتتح المولد بتلاوة قصيرة من القرآن الكريم، ثم تأتي فقرة "قراءة المولد"، وهي سرد للسيرة النبوية، مُصاغة بعباراتٍ منمّقة، ومُرتلة بأسلوبٍ خاصّ، بعدها تُقدّم فرق الإنشاد المتخصصة بعض الأناشيد الدينية والمدائح النبوية، ويُرقص على أنغامها رقصة "المولوية" (الميلوية باللهجة الشامية)، ويُختتم الحفل بإقامة صلاة العشاء في جماعة، ثم توزيع "صرر الملبس" وأطباق "المحلاية".

     
تتباهى دمشق باحتفالات عيد المولد، ففي هذا اليوم من كل عام يتساوى أغنياؤها وفقراؤها ومحدودي الدخل فيها، يتشاركون معاً في تفاصيل احتفالية واحدة، ويُقدمون حلويات يقدر على شراءها الجميع مهما ضاق حالهم، ويُقيمون الحفل مجتمعين في بيتٍ من بيوت الله، هناك حيث أكرم الخلق عند رب الخلق أتقاهم. دمشق، المدينة التي تصوغ من السكر حلوى وحكايات، خبأت ليوم المولد حبات "الملبس" البيضاء، لتقول بأصوات مدّاحيها ومنشديها "إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين أمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.