شعار قسم مدونات

"هذه مصيبتي منذ أعوام"

blogs الحب

(1)
صباحُ الخيرِ يا عزيزتي، كيفَ حالُكِ.. أنا الآن أجلسُ على شاطئ الإسكندرية وحيدًا، أفتقدُ مرورَ عطركِ على قلبي، لا آبهُ أبدًا بتلك المسافاتِ التي تباعِدُ بيننا، هم يقولون أن بيننا مائتي كيلو مترٍ وأكثر، وأنا أزعُم أني أراكِ هنا في مطلعِ الشمسِ ومغربها، ألمحُ ابتسامة وجهك في انفراجةِ الشمسِ عن مطلعها، وكأنها إذ تداعِبُ الموج تداعِبُ خصلات شعركِ الصفراءِ التي تسقطُ أعلى وجهكِ، يضربُ الموجِ الشاطئ الآن، لتئوب الماء من حيثُ أتت، إلا أن قليلًا من الماء يغزو قلمي ويبلل ورقي.

 

ألمحُ الموجَ الآن يعلو أكثر فيبلل ما تبقى من الورق.. لا يعنيني يا عزيزتي تبعثرُ العالم من خلفي ولا تعنيني كلمات المحبين من حولي، أنا أُرسِلُ كلمي إليكِ الآن إليكُ وأنظرُ إلى الشمسِ بعينٍ حزينة يتخللها دمعٌ وخوف، في وسطِ البحر ومن بعيد تظهر موجةٌ كبرى يشقها ذلك الزورقُ الذي يحمله اثنين يعصفُ بهما البحرُ طلبًا للرزق، وأنا هُنا أشقُ الورقَ وأمضغُ الكلِم وأسبحُ في لجةِ عينيكِ كي أُخرِجَ عبثًا بعض الأحرف التي ربما تليق بمحبوبتي الشقراء.

كانت هذه الرسالة لتقرع هاتف حبيبتي المذكورة تو ما كتبتها لولا عدم وجودها وعدم جدوى إرسالِها إلى غيرها، ثم لربما تتلقفها بعينٍ دامعة، أو ربما راضية وملامحٍ مستبشرة، إلا أنني وإذ أبحرُ اليوم في بدايات ومنتصف القرن العشرين فلا أعرفُ متى ستصلُ رسالتي تمامًا أعتقدُ أن الأمرَ سيتكلفُ يومين مثلًا أو ربما أسبوع لأن اليوم عطلة يتبعها غدٌ رتيب لمسئولي الرسائل في مصلحة البريد، لا أدري كيف ستصلُ هذه الرسالة إليها ومن سيقرأها أولًا، وهل يناسبها صباحُ الخيرِ أم أن علي أبدل صباح الخيرِ بمساءه وكفى!

ظلًّ قلب جبران و مي يعجُ بحبٍ لم تشهد الأرض شبيهًا له لحين رحل جبران عن العالمِ عام 1931 لتبكيه مي وتتشحَ بالسوادِ عليه مدى عمرها وتكتب على صورته
ظلًّ قلب جبران و مي يعجُ بحبٍ لم تشهد الأرض شبيهًا له لحين رحل جبران عن العالمِ عام 1931 لتبكيه مي وتتشحَ بالسوادِ عليه مدى عمرها وتكتب على صورته "هذه مصيبتي منذ أعوام"

(2)
تتنقلُ هذه الفراشة من لبنان إلى القاهرة وقد تجاوز عمرها عشرون شباطًا تكتسي ملامحُ وجهها الفلسطيني الأشهب بمزيجٍ من الجمال والثقافة والأدب يشعلُ عينها فتيلُ قوة بدت على صريرِ قلمها الذي دوى كلمًا دوى في الوسط الأدبي كُله، يتخلل ذلكَ نطقٌ سليم وكلمٌ رصين وثقافةٌ مطلقة.

 

كانَ صالونها مرتعًا للأدباء وملاذًا للكتاب، يُقام الثلاثاء من كلُ أسبوع اجتمع فيه أباطرة الكُتاب وأساتذة الأدب في القرن العشرين، فظفر مجلسها بالعقاد وشوقي وطه حسين وكذا الرافعي وغيرهم ليجتمعُ جلهم على حُبها فتأبى جميعَ مكتوبهم أحبها الرافعي فكتب إليها "لم أتطفل على أحدٍ قبلك" كتبَ فيها أميرُ الشعراءِ فقال "إذا نطقت صبا عقلي إليها.. وإن بسمت إليَّ صبا جناني" وزاد إسماعيل صبري في الغزل فيها وغيره.

أما هي.. فلم يلمس قلبُها أقوى من طيفُ حبيب بعيد، غازلتهُا كلماته وهي في مستهل عمرها لتشهد الأوراقُ على حبهما -وتأبى الأماكن-، كانَ بعيدًا في أقصى الغرب تقريبًا بينما كانت هي في أقصى أقصى الشرق، إلا أن ذلك لم يمنع قلبها وقلمها من أن يبوحا بحب رجلٍ لم تره، حتى وإن دعتهُ كلماتها غير مرة إلى المجيء فقالت في إحداها "تعال يا جبران وزرنا في هذه المدينة، فلماذا لا تأتي وأنت فتى هذه البلاد التي تناديك. تعال يا صديقي، تعال فالحياة قصيرة وسهرة على النيل توازي عمراً حافلاً بالمجد والثروة والحب".

 

استمرَ عراكها مع الورقِ أكثر من اثني عشر سنة، ليفوز الحبُ في نهاية المطاف، وتعلنُ الأديبة الأبية عن ذلك في رسالتها إليه قائلةً "نعم أحبُك" ثم تتابعُ بأنهُ الورقُ وحده الذي قادها لأن تبوح ولو أنهُ كان في وطنهِ لما نطقت بذلك قط، وأحبها جبران أيضًا كأعظمِ ما يحبُ صبيًا فتاته، فكانت نعم الصديقة والملهمة الحبيبة، والجميلُ الذي يشمُ في رسائلهِ رائحة وطنه الأول وإن كان لم يزره بعدها، كان ذلك هو ردهُ على أحدِ رسائلها "الكلمة الحلوة التي جاءتني منك كانت أحب لديَّ وأثمن عندي من كل ما يستطيع الناس جميعهم أن يفعلوا أمامي، الله يعلم ذلك وقلبك يعلم".

 

وظلًّ قلبهما هكذا يعجُ بحبٍ لم تشهد الأرض شبيهًا له يومًا – حسب ما أعرف – إلى حين رحل جبران عن العالمِ في عام 1931 لتبكيه مي وتتشحَ بالسوادِ عليه مدى عمرها، وتُجن كما قالت بعض الروايات وتودع في مستشفى الأمراض العقلية قريبًا من سنة، لتكتب على صورته التي رافقتها إلى يوم منيتها في عام 1941 "هذه مصيبتي منذ أعوام".

قتلت غادة عاشقها غسان كنفاني بكلِ يوم كان يراها أمامهُ ولا تطالها يده وإن كان قتلُ الموسادِ له كان إذعانًا بإيقاف مداد قلمه وبحر أدبه فقد كانت هي تقتلهُ كل يومٍ بجفائها وكلمها
قتلت غادة عاشقها غسان كنفاني بكلِ يوم كان يراها أمامهُ ولا تطالها يده وإن كان قتلُ الموسادِ له كان إذعانًا بإيقاف مداد قلمه وبحر أدبه فقد كانت هي تقتلهُ كل يومٍ بجفائها وكلمها
 

أما هذا فقد كان شاعرًا وكاتبًا ومناضلًا طافت كتاباته مشارق الأرض وصرعت الاحتلال في أكثر من مقتل، بدا قويًا صلبًا إلى يومِ استشهاده على يد الموساد في عام 72 أو قل بعد ذلك بعشرين عامًا تحديدًا حينما قررت محبوبته عبثًا أن تنشر تلك الرسائل التي كانت تصلها منه على مدار عمره، كان ذلك بدافع أنها إرثٌ أدبي لا يصحُ أن لا يُنشر كانت نرجسيتها جليةً في إبائها وكبريائها في أوجهها إذ كانت تفخرُ بأن شباكها اصطادت أحد أعظم الكُتاب والمناضلين في عصرهم، فيما كان هو يحلقُ في سماءِ حُبها مكسورَ الجناح ذليل الخاطر.

 

أتعبهُ الشوق وأضناهُ الجفا وأهلكهُ ما يرى من غزلها في آخرين فكتبَ إليها يومًا "عزيزتي غادة – ثم لعن دينها – ما الذي حدث تكتبين لكلِ الناس إلا لي؟ اليوم في الطائرة قال لي سليم اللوزي أنك كتبتِ لهُ أو لأمية – لم أعد أذكر – وأمس قال لي كمال أنهُ تلقى رسالةً منك.. وآخرين فما الذي حدث لا تريدين الكتابة لي؟ معلشّ! ولكن انتبهي جيدًا لما تفعلين: ذلك يزيدني تعلقًا بكِ".

وكانت هي في حُبها صقيعٌ بارد ونارٌ حارقة، توًا تحبُه ودهرًا تهجره، فكان مما كتبت له قولها "أيّها البعيدُ كذكرى طفولة، أيّها القريبُ كأنفاسي وأفكاري، أحبّك وأصرخُ بملءِ صوتي أحبّك" إلا أنها لم تبح بمدى هذا الحبِ إلا بعد موته، واعترفت بأنها شاطرت حبه حب رجالًا آخرين، غير أن له حسب قولها منزلةً خاصة..

 

قتلت غادة عاشقها في كلِ يوم كان يراها أمامهُ ولا تطالها يده "يبدو أن هناك رجال لا يمكن قتلهم إلا من الداخل" وإن كان قتلُ الموسادِ له كان إذعانًا بإيقاف مداد قلمه وبحر أدبه فقد كانت هي تقتلهُ كل يومٍ بجفائها وكلمها، ناجاها أن تكتُب فيه ثم دعاها إلى عدم الكتابة أو عدم الاكتراث أصلًا وزادُ أنه سيظلُ يعود كما يعود اليتيم إلى ملجأه الوحيد "أعطيكِ رأسي المبتل لتجففيه بعد أن اختار الشقي أن يسير تحت المزاريب".

 (3)

ما معنى هذا الذي أكتبه؟ إني لا أعرف ماذا أعني به، ولكني أعرف أنك محبوبي، وأني أخاف الحب، أقول هذا مع علمي أن القليل من الحب الكثير، الجفاف والقحط واللاشيء بالحب خير من النزر اليسير، كيف أجسر على الإفضاء إليك بهذا؟ وكيف أفرط فيه؟ لا أدري. الحمد لله أني أكتبه على الورق ولا أتلفظ به لأنك لو كنت الآن حاضراً بالجسد لهربت خجلاً بعد هذا الكلام، ولاختفيت زمناً طويلاً، فما أدعك تراني إلا بعد أن تنسى.

مي زيادة لجبران – القاهرة 15 يناير 1924.

لا تخافي الحب يا ماري، لا تخافي الحب يا رفيقة قلبي، علينا أن نستسلم إليه رغم ما فيه من الألم والحنين والوحشة، ورغم ما فيه من الالتباس والحيرة. اسمعي يا ماري: أنا اليوم في سجن من الرغائب، ولقد ولدت هذه الرغائب عندما ولدت. وأنا اليوم مقيد بقيود فكرة قديمة، قديمة كفصول السنة، فهل تستطيعين الوقوف معي في سجني حتى نخرج إلى نور النهار وهل تقفين إلى جانبي حتى تنكسر هذه القيود فنسير حرين طليقين نحو قمة جبالنا؟

 جبران خليل جبران – نيويورك 26 فبراير 1924

يقولونَ أنّ علاقتنا هي علاقة من طرف واحد، وأنّني ساقطٌ في الخيبة، قيلَ إنّني سأتعبُ ذاتَ يوم من لعقِ حذائك البعيد. يُقال إنّك لا تكترثينَ بي، وأنّكِ حاولتِ أن تتخلّصي منّي، ولكنّني كنتُ مِلْحاحاً كالعَلَق! يشفقونَ عليّ أمامي، ويسخرونَ مني ورائي، ويقرأونَ لي كما يقرأونَ نماذجَ للشاعر المجنون.

 غسان كنفاني – بيروت 

عزيزتي صباحُ الخير.. أنا ما زِلت انتظرُ طيفك يشقُ الموج ويكسرُ البحر، ثم أقفُ واهمًا أفرُك عيني يسقطُ القلم من يدي كما الأفلام، ويكتسي وجهي بعلامات الدهشة وتتملكني رغبة قوية في الحب وكيف لي ألا أحبكِ.. عزيزتي صباحُ الخير أو مساءُه، والسلامُ على قسماتِ وجهكِ وجميل شعركِ وبراءة عينكِ ورسمُ رمشكِ وأكثر. السلام عليكِ يا سيدة حرفي.
عبدالرحمن – الإسكندرية 28 أكتوبر 2017.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.