شعار قسم مدونات

العلمُ السائل.. مقاصد الشريعة

مدونات - تاريخ علماء عالم شيخ قراءة

نقصدُ بالعلمِ السائلِ هنا الذي انفكّ عن الضوابطِ بسبب المشتغلين به والقائمين عليه، والسيولةُ هي اللاضابط، واللامنهجية، واللامعايير، فيستحيل الأمرُ إلى ذوقٍ محض، ورؤية شخصانية تامّة، بعيداً عن القواعد المتعارف عليها في الحقل العلميّ، والمنهجية البحثية الضابطة للفهم، والمنطقية الصارمة المتوارثة في الدرس الفقهي والأصول، فيخرج العلمُ من كونه علماً له حدود وأسوار وأبواب وفصول، إلى موضوعات إنشائية، وصيخ جمالية، وعبارات هلامية.      

 

فقه من غير أصول وأصول من غير فقه

لا يُتصور علمياً أن يتمّ استنباط المسائل الفقهية وفهم النصّ الدينيّ بدون ارتكاز على قواعد علمية ومنهجية صارمة، تتمثل في علم أُصول الفقه، هذه مرحلة تأتي بعد ثبوت النصّ الدينيّ ومرحلة الثبوت تلك توضع أيضا على منهجية علمية صارمة أخرى تسمى علم المصطلح. أي أن مجموعة من القواعد والضوابط تتدخل في إثبات النصّ وسلامة وصوله سنداً إلينا، ثمّ تأتي مرحلة التعامل مع المتن وكيفية فهمه والاستنباط منه عبر علوم الآلة الأخرى، مجتمعة لا منفصلة. وهنا ينبغي إجابة سؤال: هل علم المقاصد علم آلة أم علم غاية؟  

 

كان الطاهر بن عاشور مؤسس علم المقاصد في العصر الحديث يريد علم المقاصد أن يكون خادماً لعملية الاستنباط الفقهي، ويكون موازياً لعلم الأصول وابناً شرعياً له، وأن يرتكز الفقه على العلمين في صناعة الفتوى، بحيث لا يُمكن صناعة الفتوى بدون علم الأصول والمقاصد معاً. ولا يُتصور وجود فقيه لا يُدرك الضوابط والمناهج الأصولية، وكذلك لا يُتصور فقيه لا يدرك مقاصد المسائل وأبوابها. لكن حينما ينفكّ علم الفقه عن الأصول، أو الأصول عن الفقه فسوف نكون أمام كارثة منهجية، كالتي حدثت من عناصر السلفية المعاصرة التقليدية والجهادية، التي آلت أجنحة منها إلى اعتماد الضوابط الأصولية أو أكثرها بعد طول قطيعة. كذلك فلا يحتمل عقلا وشرعا أن تتم عملية الاستنباط بالمقاصد وحدها ذلك أن المقاصد حتى يومنا هذا لم تؤطر أو تُقنن على غرار أصول الفقه. فهي حتى اليوم عبارة عن عبارات إنشائية، وجمل فضفاضة هلامية، وكان من المفترض أنها في طور النموّ والتشكّل، حتى تصير كالأصول، أي تصير علماً منهجياً ضابطاً، بيد أننا لا نرى أنّ هذا سيكون مآلها بسبب اختطافها من الحركيين الذين وظّفوها لصالح أغراضهم الحزبية والحركية، توظيفاً واستغلالاً وتبريراً، في كلّ شيء، ثمّ اختطافها أيضا من مؤسسات دينية رسمية لتطويعها وفق رؤيتها، لكن لم يكن هذا الاختطاف كاختطاف الحركيين.

 

والغريبُ حقّا أننا أصبحا إزاء جماعة من الحركيين والحداثيين العلمانيين يتعاملون مع علم المقاصد على أنه الفقه، فمن أدرك المقاصد صار فقيهاً، فلا يفرقون بين الفقه وبين المقاصد كعلمين مختلفين، ثمّ في نفس الوقت يتعاملون مع المقاصد من وعائها اللغوي فقط، أي في إطار الحكمة الشرعية، لا في إطار العلّة المنضبطة أصوليا، والمصالح المعتمدة لا المصالح المتوهّمة. ولم يتمكن هؤلاء القوم من التفرقة بين المصالح المتوهمة والمصالح المستحسنة قطعياً، بسبب فقدانهم لأدوات الاجتهاد الأخرى، أو لافتقادهم الاطلاع التام على بقية دوائر العلوم، فدائرة الاستنباط الفقهي تنحصر عندهم في المقاصد وحدها.        

 

العالم والفقيه التونسي الطاهر بن عاشور (1879-1973م) (الجزيرة)
العالم والفقيه التونسي الطاهر بن عاشور (1879-1973م) (الجزيرة)

 

وبتعبير أدقّ فإنّ علم المقاصد هو علم وُضع أيضاً للمؤهلين علمياً، ولم يوضع للمنفلتين، أو ممن لم يمكنهم فهم الآليات الأخرى فيهربون إلى المقاصد التي جعلوها رديفا للفهلوة والعقلنة.

 

إنّ المقاصد تعتني بالضروريات والحاجيات والتحسينات، أي أبواب المصالح الشرعية، وكل عنصر من هذه العناصر يضمّ تحته آلاف المسائل الفرعية التي تخضع في فهمها وتأويلها والاستنباط منها لعلم الأصول والحديث وغيرهما. فلا يمكن للمقاصد أو لغيرها أن تتفرد بإدارة تلك الملفات والعناصر.

 

الخلل في فهم وظيفة المقاصد أو حتى في عدم نموها ونضجها، أدى إلى تضارب الفتوى بين المؤسسات الرسمية والفقهاء في العالم الإسلامي على ذات الوقائع

لا يُمكن هنا إنكار جهود الطاهر بن عاشور، وعلال الفاسي، وطه جابر العلواني، والريسوني ومحمد كمال إمام وغيرهم، بيد أنّ العلم كان في مرحلة الاستكشاف، وللأسف الشديد تمّ ذبحه على يد بعض المعتنين به حديثاً. فمثلا هناك مصطلح "الفقه"، فيمكن إطلاقه على الفقه الذي هو العلم المعروف بأبوابه وفروعه ومسائله، ويمكن إطلاقه في سياق آخر فتقول: "فقه الصوم" وتقصد به هنا فلسفة الصوم، وحكمة الصوم، أو فهم الصوم، وقد يُراد به أيضا أحكام الصوم، فينصرف على العلم، وكل هذا يتضح من قرينة الكلام وسياقه. لكن عندما تقول "مقاصد الصلاة"، "مقاصد الجهاد"، فأنت أمام شخص يريد أن يتحدث عن حكمة الصلاة وغايتها، ولا يُمكن للمستمع أن يفهم أنّ القائل أو الكاتب يقصد علم المقاصد. فالمشتغلون بالمقاصد هنا لم يفرقوا بين علم المقاصد وبين لفظ المقاصد الذي استعملوه في كلّ الموضوعات، فصرنا نسمع "مقاصد العقيدة"، "مقاصد الأموال"، "ونحو ذلك من جمل إنشائية، وعبارات فضفاضة، يُعقد من ورائها مؤتمرات، وندوات، وتُطبع كتب هيروغليفية لا يُفهم منها سوى تحويل للفقه من مساره المعروف إلى جداول، ورسومات وإحصائيات. ثم تقرأ تلك الكتب فتجدها غير مستقرة على أبواب وفصول ومسائل، بل كلّ يغنّي على ليلاه، وجعلوا المقاصد دفتراً مفتوحاً لكل فكرٍ يأتي على بال أحد، تارةُ تجديديّ، وتارةً انفلاتيّ، وتارةً هو كلام حُلوّ جميل لا يُختلف عليه، لكن ليس مكانه هنا. وللتقريب فلك أن تتخيل أن شخصاً يريد الحديث عن أصول الفقيه فهل يجوز له أن يقول "أصول العقائد"، ويقصد بكلمة أصول هنا علم أصول الفقه؟! فامتهان كلمة مقاصد لبّست العلم وعقّدته حتى عند المشتغلين به.   

 

المقاصد والتجاذب السياسي

كذلك من المآخذ التي تؤخذ على المقاصد أنه علمٌ متجاذَبٌ بين الأطراف المتصارعة سياسياً، بخلاف علم الأصول أو الفقه أو النحو مثلا، فهو كالمطاط يُشدّ من كل جوانبه، وذلك بسبب أنه غير مقعّد أو مقنن حتى اليوم، وبسبب أنهم لا يُدخلوه في عملية الاستنباط توازياً مع علم الأصول وعلوم الآلة عموماً، بل يستعملونه استقلالاً، بالإضافة إلى أنهم يستعملونه لا كعلم آلةٍ ضابطٍ للفهم، بل كشيء مستقلّ، بعيداً عن منظومة المنهج المتوراثة في الأمّة، وحتى لو سلّمنا بهذه القراءة للمقاصد ووظيفتها فإن الأحرى وقتئذ أن تكون كالروح التي تسري في نفس الفقه، وقلب الأصوليّ، أثناء عملية توليد الفتوى وصناعة الاستنباط، وهي نفس الروح التي نجدها عند الجوينيّ والقرافي والعز بن عبد السلام والأقدمين، أمّا جعلها سلما للتفلت من كل الثوابت وللانقلاب على منظومة الفهم والاستنباط الأصلية فهذا من عوامل هدم الجسم العلمي لا بناءه أو ترميمه وتشييده.

 

والخلاصة أن هذا الخلل في فهم وظيفة المقاصد أو حتى في عدم نموها ونضجها بسبب التجاذب والاستعجال على توظيفها سياسياً وفقهياً لخدمة المخرجات النهائية التي أثارت بلبلة في أحايين كثيرة، أدى إلى تضارب الفتوى بين المؤسسات الرسمية والفقهاء في العالم الإسلامي على ذات الوقائع، والطريف أنك تجد منتجَ كل فقيه يعبّر عن الدولة أو مجموعة الدول التي تدعمه، اقتصادياً وإعلامياً، وسياسياً، أو يعبر عن توجهه السياسيّ، ومن هنا صارت الفتوى خلف الانتماء وليس العكس. فالمفترض أن عملية الاستنباط تتم في إطار علمي قواعديّ بعيدا عن التجاذب والانتماء السياسي ثمّ بعد ذلك تأتي مرحلة التجاذب السياسي بناء على الحكم المستقل، أو المفترض أنه مستقل ومورس فيه اجتهاد حقيقي بأدواته المعتمدة منهجياً.        

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.