شعار قسم مدونات

مصالي الحاج وابن مهيدي، في الوعي بالوطن والوعي بالثورة

مدونات - مصالي الحاج الملقب بأبي الحركة الوطنية في الجزائر

كان الطريق السيار نحو الجزائر العاصمة المُبالغ في تزفيته يبعث فيك الرَّغبة في النوم على طوله، بدل الاستغراق المُملّ في النظر إلى أرض بلون الرماد، مفتوحة بفجور فجٍّ على السَّماء، هي على كل حال ضريبة التقدُّم والسرعة في الإنجاز كما نتوهّم نحن المتهالكون على درب الحداثة في مقابل اختزال الزمن وتحييد قيمة الحركة.. استذكرت في تلك اللحظات بعض ذكريات الطريق ذاتها أواخر التسعينات، بأشجارها الوارفة، والورود البريّة المتناثرة على جانبيها، والتي تطبع في ذاكرتك بعض جمال الوطن المُغتال أيّامها، جمالٌ عبرته مع والدي ذات صيف ملتهب مرتين، الأولى لاجتياز مسابقة وطنية للثانويين، والأخرى لحضور التكريم بعد حصولي على المرتبة الأولى في المسابقة ذاتها.. لم يكن الحدث مبهجا في تلك الظروف التي فقدنا فيها صديق والدي قبيل أيام، بعد أن قضى ذبحا وهو يجلب الدواء للمركز الصحي بالقرية مع عدد من رجال الأمن في كمين نصبته جماعة مسلحة… فلم يكن الحضور آنذاك سوى محاولة بائسة لسرقة بعض الفرح من حياة ملغّمة.

 
دخلنا العاصمة، وتوجَّهنا إلى ثانوية حسيبة بن بوعلي بالقبَّة أين أجريتُ المسابقة، وهي ثانويّة عريقة بُنيت في العهد الاستعماري، الذي كانت روحه تلفّ المكان بشكل لم أتبيّن بدقّة شكله ولا سببه، وهو إحساس يراود الكثيرين منَّا نحن أبناء المناطق الداخلية حين نزور العاصمة، ونقف على عمرانها المهندَس في أهم واجهاته على الطراز الأوروبي الذي أخفى معالم المدينة القديمة، لتحلّ محلّها مدينة الكولون كما رسمها الحكام الفرنسيون، وخاصّة جاك شوفالييه الذي اجتهد واستجهد بعض أبنائها الأصليين لتشييدها حاضرة حديثة، كنوع من شراء الذمم، وتأسيسا لمرحلة جديدة من الاستعمار الناعم، الذي أيقن عند لحظة فارقة أثناء وبعيد 8 ماي 1945م أنّ عُمره في المدينة والبلاد يُشارف على بداية النهاية.

 
لم ينتشلني من حالة الغربة التي عشتها في تلك اللحظات سوى نص الامتحان باللغة العربية لطه حسين الذي آنس غربتي في المكان واللِّسان، بعدما اكتشفت واقعاً أن الصورة النمطية الثابتة في مخيالي عن استقلال الوطن وعروبته ليست بالضرورة كاملة، وأكتشف لاحقا أن طه حسين ذاته تنصّل أياما من العروبة، ولاذ للفرعونية والبطلمية هرباً من لعنة التخلُّف التي لحقت العرب منذ قرون.

 

عدت إلى العاصمة في زمن الصَّفاء والأمن عدَّة مرات، وفي هذه المرة زرتها محمَّلة بكثير من الحنين المشوب بوجع الجدل حول الهوية والانتماء، مشاعر متضاربة تظلُّ تسيطر علينا نحن الذين نعيش في أوطان على حافَّة التشتت والانشطار على أساس العرق أو اللغة أو الدين، نسأل الأسئلة العالقة في عنق التاريخ، بعيدا عن شوارعنا المزدحمة في عمقها بسؤال اليومي، وهمّ المعيشي حدَّ التخمة، ربما وحدهم الشهداء من كانوا يمتلكون القدرة على الإجابة عن سؤال هوية الوطن كما أدركوها بثقة وحسم، حين أنكر ثائرٌ مثل العربي بن مهيدي بسخرية حين ادّعى بيجار أنّ رفاقه الثوار الثلاث قد وشوا به لأنهم قبائل وهو عربي، أو حسين آيت أحمد الذي ظلّ ينكر إلى آخر العمر عرقيّة نضاله المجيد، بإيمان راسخ أنّ للمجتمع الجزائري جدليته الخاصّة التي تتجاوز مجرّد نضالات عرقيّة مقيتة إلى نضالات ثقافية واجتماعية تليق بالوطن والانسان، من هنا فقط أمكننا.

 

العربي بن مهيدي 1957 (مواقع التواصل)
العربي بن مهيدي 1957 (مواقع التواصل)

   

استقليت مع أختي التليفيريك، لنصل إلى مقام الشهيد ودونه متحف المجاهد، هناك حيث يركن تاريخ كامل من المقاومة والاستشهاد.. كنا نتأمل في صمت وفخر ملامح المقاومين، وأدوات مقاومتهم وحياتهم ضمن ظروف الكفاح والتعذيب والاستشهاد، إلى أن وصلنا إلى أيقونة الثورة الجزائرية، العربي بن مهيدي، كانت صورته الفخمة مع السجَّان تختصر كل الحكاية.. شموخ الفكرة والرجل إلى الخلود، وعنجهية الجلاد ومنطقه إلى الهاوية.. وتحت الصورة كان الصندوق الزجاجي الذي وُضعت فيه ساعة الشهيد بسوارها الجلدي الأسود البسيط، والبطانية الرمادية التي كان يفترشها في زنزانته، توقفنا طويلا عند هذا المشهد المهيب، عند أشياء الشهيد.

 

أستحضر شهادة السفاح أوساريس الذي خوّل له ضميره الغربي قتل رجل يصعب أن يتكرَّر مرتين في حياتنا على الأقل، ليعود بعد عشرات السنين يتحدث عن شجاعة وثقة و"غرور" الرجل المثال الذي أحرج فرنسا العظيمة في جيشها، وخاصة في شخص بيجار الذي صادق الُمدان بجرم الإيمان بالحق في الوطن والمواطنة على مدى يومين، حاول فيهما تجنيده لصالحه، فتعالى الحدث من مجرَّد محاولة إثبات أو تثبيت خيانة إلى ملحمة دفاع فكري إنساني حضاري عن إيديولوجيا الثورة، كما سماها أو ساريس، الذي دُهش يوم تنفيذ الاغتيال الغادر للشهيد عندما قامت فرقة كاملة من المظليين المنضوي تحت قيادة بيجار، الذي غاب يومها عمدا، بتحية المتهم تحية عسكرية تليق بالفاتحين، وهي لفتة على عِظمها في عُرف العسكر، لا تساوي شيئا أمام سجل فرنسا المرعب في انتهاك حقوق الإنسان ومدنيته وآدميته.

 

تساءلت للحظة كيف استطاع ابن مهيدي أن يمتلك كل هذه القدرة على الصمود والحسم في الموقف ليس أمام الجلاد في لحظة التوقيف فحسب، بل وتكوين هذا الوعي الواضح الواثق بالوطن، ووحدته الترابية الضاربة في القدم بعد أن تبعثرت في التاريخ بعد تفكك نوميديا القديمة، ثمّ توالي الوافدين إلى العهد العثماني الذي ظلت تفتقر في ظلّه إلى حكم مركزي فعلي قوي، لتستلمها فرنسا فيما بعد، وتواصل بشكل ممنهج ودقيق نفي كل علامات الوطن الجزائري لمدة تزيد عن القرن وربعه.

 

قيّض التاريخ لمصالي الحاج مهمة صنع جيل الوعي الخالص، فلم يكن يقبل في صفوف تياره سوى من ثبُت نضج وعيه، رجلٌ كان يدرك أن الثورة المسلحة ستكون تحصيل حاصل بعد نضال اجتماعي وسياسي وثقافي

هذا السؤال الذي أصبح يلحُّ علي منذ أن انتعش ذِكر الثورة في منطقتنا مؤخرا، كنت قد سألته أول مرة لبا امحمد الشيخ المجاهد في قريتنا، بصيغة أخرى أقلّ تعقيدا ونبشا في ذاكرة الوطن، وهو يحكي لنا عن عام الشر أي المجاعة بعد الحرب العالمية الثانية، عندما هلك كثير من أهل القرية جوعا ومرضا، لأن الاحتلال قام بنقل كل المحاصيل الزراعية إلى فرنسا المركز بعد كارثة الحرب، وكيف أنه كان يحمل أكياس الغذاء على ظهره، عشرات الكيلومترات، حافي القدمين ليوصلها إلى الكولون س، وكيف أنه عندما بلغ المنزل وهو على حافة الانهيار جوعا وعطشا وتعبا، قام السي الكولون بشكره ثم رمي المؤونة كلها لكلبيه في المنزل، كان با امحمد يروي تفاصيل المأساة بتعابير وجه ثابتة فيما تسمَّرتُ في مكاني من شدة القهر والحنق، سألته كيف لم ينتفض في وجه هذا الكولون، فأجابني بأنه كان يعتقد أن الله خلقنا أهالي بالفطرة، عبيدا للكولون. وكيف تغيرت الفكرة وشاركتم في الثورة؟ سيد الحاج محمد أمرنا بذلك في الزاوية الشيخية الشاذلية. وكيف تصورتم أنه بإمكانكم الانتصار على فرنسا القوية؟ بالخدمي يا بنتي أي السكين، والقتل ولو بشبهة التعامل مع فرنسا، وبهذا تم عزل الاستعمار أولا، ثمّ هزيمته لاحقا. لم يكن ممكنا أن أعمّق الحديث أكثر من هذا مع با امحمد بفهمه الساذج للحرية والثورة والإنسان ذاته، فهمٌ لم يتعدّ سقف الصور الثابتة التي يتولى الكولون وشيخ الزاوية تثبيتها في العقول، كما لم يكن ممكنا أن أقارن بين وعيه ووعي ابن مهيدي رغم أنهما كانا في مركب واحد لاختلاف التكوين والحيثيات.

 
بين النموذجين كانت المساحة شاسعة، يتدرَّج فيها الوعي مراتبا تتنوَّع ما بين إنكار الوطن كلية، والعمالة لفرنسا عند كل من قبِل وسعى للتجنيس بتنازلاته، مرورا بمراتب المؤمنين بالإدماج إصلاحيين وعلمانيين، إلى المجنَّدين جبرا، وصولا إلى المؤمنين بالاستقلال الكامل، والوحدة الوطنية عن بصيرة وثقة، هكذا كانت فسيفساء الوعي بدرجاته في المشهد الوطني دقيقة ومُفخَّخة إلى حدٍّ يجعل من الصَّعب استيعابها، وإدارة تجاذباتها، والمفاضلة بين درجاتها، وهي المهمّة التي قيّض لها التاريخ مصالي الحاج رجلا بحجم أمّة، أدرك بعمقٍ مفهوم الوطن الأمّة، وصنع جيل الوعي الخالص، فلم يكن يقبل في صفوف تياره سوى من ثبُت نضج وعيه، ووثوقية إيمانه بالوطن، رجلٌ كان يدرك أن الثورة بالسلاح ستكون تحصيل حاصل بعد نضال اجتماعي وسياسي وثقافي، فيما حسم ابن مهيدي ورفاقه في اللجنة الثورية للوحدة والعمل المسألة بعد صراع مرير في الحزب، فقرروا بتعبير بن بلة الثورة على الحزب وعلى فرنسا في نفس الوقت، وبهذا وُلدت ثورة نوفمبر من رحم الحركة الأصليّة عبر عملية قيصرية.

نجحت الثورة في جمع أطراف الساحة الوطنية التي التحقت بصفوفها على تباين وعيها، مأخوذة بوهج انتصاراتها المباشرة على فرنسا، لتنتهي الثورة ويبقى الوطن على حاله مفهوما متحركا، تتجاذب تعريفاته نفس الأطياف بحدّة تتنامى، وقصور رهيب لدى أغلبها في استيعاب مفهوم الوطنية القائم على الارتباط بالأرض والسيادة عليها كما صاغها يوما سيدي الحاج مصالي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.