شعار قسم مدونات

عائلات وعشائر.. صراع المدينة والريف في العراق (2)

blogs العراق قديما

عندما قررت بريطانيا منح العراقيين حق تكوين دولتهم كان المرشحون الأربعة للعرش الجديد ينتمون إلى عوائل عريقة ذات نفوذ وتأثير كبيرين، فالأول كان هو السيد عبد الرحمن الكيلاني نقيب أشراف بغداد والصوفي الكبير؛ الذي يمتلك نفوذا وتأثيرا يوازي سلطات الولاة الذين كانوا يحكمون بغداد نيابة عن الأستانة، والثاني هو السيد طالب النقيب، نقيب أشراف البصرة والشخصية المثيرة للجدل، وكانت تربطه بالجمعيات العربية السرية المناهضة للحكم العثماني علاقة وثيقة، أما الثالث فكان هادي باشا العمري أحد أعيان الموصل، والذي تولى رئاسة أركان الجيش العثماني عام 1912 وشارك في العديد من معاركه في البلقان وغيرها، أما الأخير فكان الشيخ خزعل الكعبي أمير الأحواز.

إلا أن الإنكليز قرروا أن ينصبوا حاكما لا يتمتع بامتدادات شعبية عميقة، ولا يمتلك علاقات واسعة بمراكز القوى الاجتماعية في البلاد، فوقع الاختيار على الأمير الحجازي فيصل بن الحسين، الذي أخرجه الفرنسيون من سوريا بعد أن حكمها لعام واحد، فتوج فيصل الأول ملكا للبلاد عام 1921م.

الملك والبرجوازية الجديدة

كان من الطبيعي أن يلجأ الملك الجديد إلى النخبة من أبناء المدن ليساعدوه في بناء دولة عصرية؛ في مجتمع موغل في التقليدية غابت عنه مؤسسة الدولة لقرون، فبدأت البرجوازية العراقية بالتشكل كوريثة لأرستقراطية فقدت الكثير من الامتيازات التي كانت تتمتع بها في العهود السابقة، وتمثلت الطبقة الجديدة بأبناء الأسر المتنفذة وشيوخ العشائر الكبيرة، وبدأ هؤلاء بتقلد الوزارات والمناصب المفصلية في الدولة الوليدة، وبنظرة إلى قائمة رؤساء الوزارات طيلة العهد الملكي يلاحظ أن معظم هؤلاء ينتمون إلى عوائل معروفة، تداولت السلطة لعقود، قبل أن ينقض الجمهوريون على السلطة بانقلاب تموز عام 1958.

كانت أهم الأحزاب التي تولى رئاستها أبناء البيوتات المعروفة: حزب الاستقلال، الذي يمثل التيار القومي، ورأسه محمد مهدي كبة
كانت أهم الأحزاب التي تولى رئاستها أبناء البيوتات المعروفة: حزب الاستقلال، الذي يمثل التيار القومي، ورأسه محمد مهدي كبة
 

ومن أبرز الأسر التي تولت منصب رئاسة الحكومة وقيادة الجيش العراقي والوظائف الكبرى في العهد الملكي: آل السعدون، وآل السويدي، وآل العمري، وآل الكيلاني، وآل الهاشمي، وآل الباجه جي، وآل الجادرجي وآخرين، وكانت معظم هذه الأسر ترسل أبناءها إلى إسطنبول للدراسة، ثم تغيرت البوصلة بعد ذلك نحو لندن، فتشبع هؤلاء بالثقافة الغربية وتقاليد منفتحة كان يستهجنها المجتمع العراقي المحافظ آنذاك قبل أن يستوعبها ويتمثلها فيما بعد، كما أنهم سرعان ما نقلوا أنماط الحياة الأوربية للعراق، وبدءوا في تشكيل أحزاب سياسية وأندية اجتماعية ورياضية لعبت دورا كبيرا في عملية التحديث التي كانت تدعمها السلطة بقوة، وأسهمت في تطور الوعي السياسي والاجتماعي، وبالإضافة إلى هؤلاء ظهرت أسماء أسر إقطاعية جنوبية كبيت الياسين رؤساء عشيرة المياح في الحي، وبيت الحبيب رؤساء ربيعة في الكوت، وبيت الجريان رؤساء البو سلطان في الحلة، وغيرهم.

تحديث وعصرنة

وكانت أهم هذه الأحزاب التي تولى رئاستها أبناء البيوتات المعروفة: حزب الاستقلال، الذي يمثل التيار القومي، ورأسه محمد مهدي كبة، وكان من قياداته فائق السامرائي وخليل كنة وصديق شنشل، والحزب الوطني الديمقراطي الذي تزعمه كامل الجادرجي ومحمد جعفر أبو التمن ومحمد حديد (والد المعمارية الشهيرة زها حديد)، وحزب الإخاء الوطني برئاسة ياسين الهاشمي ومعه ناجي السويدي ورشيد عالي الكيلاني، وحزب الاتحاد الدستوري الذي أنشأه نوري السعيد، وغيرها.

ولم يكن لأبناء الريف العراقي في ذلك الوقت تأثير كبير على مجريات الأحداث في البلاد، واكتفى زعماء العشائر الكبيرة من الإقطاعيين بالعضوية في مجلسي الأعيان والنواب والحصول على الامتيازات التقليدية التي كان يتمتع بها أسلافهم.

لطالما شكل الزحف الريفي باتجاه المدن إحدى أكبر الأزمات التي تعرضت لها عملية التحديث في العراق، إذ أنه أحدث -بشكل مباشر أو غير مباشر- خللا عميقا في بنية المجتمع العراقي

أما النوادي الاجتماعية والثقافية فكان من أشهرها نادي المثنى بن حارثة في بغداد، والذي كان يمثل واجهة اجتماعية وثقافية للقوميين، وكذلك ناديا الجزيرة في الموصل والمهلب بن أبي صفرة في البصرة، وجمعية الكشافة العراقية، وجمعية الشبان المسلمين ببغداد، وظهرت أندية نسوية كنادي النهضة عام 1923، وهو ما كان يمثل تطورا نوعيا في مجتمع تقليدي محافظ كالعراق.

فشل محاولات الاستيعاب

لطالما شكل الزحف الريفي باتجاه المدن إحدى أكبر الأزمات التي تعرضت لها عملية التحديث في العراق، إذ أنه أحدث -بشكل مباشر أو غير مباشر- خللا عميقا في بنية المجتمع العراقي، وسبب مزيدا من الانقسامات المجتمعية التي تحولت إلى مذهبية فيما بعد، ولم تفلح محاولات الدولة في صهر هذه الموجات البشرية ببوتقة المدينة وثقافتها بل حدث العكس من ذلك، فقد انحسرت مظاهر التقاليد الحضرية التي عرفت بها المدن العراقية أمام ثقافة الريف، التي بدت وكأنها تحرز تقدما يوما بعد آخر حتى في الأحياء العريقة داخل المدن.

وفي العقود الثلاثة التي تلت سقوط الملكية حاولت الأنظمة الجمهورية أن تعالج ظاهرة العشائرية المتجذرة في الريف العراقي عن طريق التعليم وإدماج أبنائهم في الوظائف الحكومية، ولأنها كانت تحمل شعارات "تقدمية" فقد تعاملت مع العشائرية كظاهرة "ماضوية بالية"، ولم تعر شيوخها أهمية تذكر، حتى وقعت حرب الخليج الثانية وانسحب الجيش العراقي من الكويت تحت ضربات التحالف الدولي.

 

واندلعت اضطرابات مسلحة عنيفة في الجنوب كادت أن تطيح بحكم الدولة هناك، فلجأ الرئيس السابق صدام حسين إلى شيوخ العشائر وأعاد لهم الاعتبار، ومنحهم سلطات استثنائية ومعاملة خاصة عرفانا لجميلهم بوقوفهم إلى جانبه. وهكذا ضخت دماء جديدة في جسد العشائرية، وبدأت تزداد قوة حتى داخل أسوار المدن، لكنها ظلت تتحرك تحت مظلة الدولة، خوفا من قمع قد يطالها إذا حاولت ممارسة دور يمنحها قوة لا تسمح بها مراكز القرار السياسي والأمني.

اختراق ناعم لبنية الدولة
كان صدام حسين أول رئيس عراقي من أصول ريفية، فمن سبقوه كانوا ينتمون إلى بغداد ومدن أخرى، وظل صدام المنحدر من قرية
كان صدام حسين أول رئيس عراقي من أصول ريفية، فمن سبقوه كانوا ينتمون إلى بغداد ومدن أخرى، وظل صدام المنحدر من قرية "العوجة" بجوار تكريت يحمل في أعماقه رجلا ريفيا
 

وهكذا حدث هذا الاختراق الناعم لبنية الدولة العراقية بشكل انسيابي وهادئ، فقد صعد الضباط المنحدرون من أصول ريفية إلى الجيش والمؤسسات الأمنية، فيما كان أبناء المدن يفضلون الالتحاق بالوظائف الحكومية وأعمال التجارة، بالإضافة إلى انتساب العديد من أبناء الريف والمدن الصغيرة إلى صفوف الأحزاب القومية واليسارية، ثم تحكمهم بمفاصل القوة والتأثير فيها، والتي أدت فيما بعد لوصولهم إلى السلطة.

وكان صدام حسين أول رئيس عراقي من أصول ريفية، فمن سبقوه كانوا ينتمون إلى بغداد ومدن أخرى، وظل صدام المنحدر من قرية "العوجة" بجوار تكريت يحمل في أعماقه رجلا ريفيا، رغم أنه حاول أن يبدو بمظهر الرجل العصري المحارب للظواهر "الرجعية"، وبقيت بعض النوازع "البدائية" تتحكم في سلوكه الشخصي والعام حتى نهاية حكمه، فكان يبدو أشبه بشيخ عشيرة أكثر من كونه رئيسا لجمهورية بحجم العراق.

وقد عرف عن أبناء المدن القديمة الانتساب إلى عوائل تحمل أسماء أجدادهم، أو المهن التي يعملون فيها، أو الصفات الغالبة عليهم، أو المدن التي انحدر منها أسلافهم، وظلوا كذلك حتى بداية التسعينات، حين انبعثت العشائرية من جديد وبدأت بالتسلل إلى المدن، وظهرت تقاليد وأعراف لم تكن مألوفة سابقا، كاللجوء للمحاكم العشائرية العرفية والتحاكم إلى قوانينها التي تعرف محليا بـ"السنينة"، كما بدأ الكثيرون بتغيير ألقابهم وربطها بالعشائر التي ينتمون إليها، وتوسعت هذه الحالة بعد 2003. 

نزعات الثأر الريفية وبداية الأفول
دخلت البلاد بنفق الانقلابات العسكرية، وانتقلت صراعات السياسة للشارع في شكل صدامات مسلحة بين القوميين وحلفائهم من جهة والشيوعيون وأنصارهم من جهة، ولم تستقر الأوضاع إلا بتولي عبد السلام عارف الرئاسة

كانت بداية نهاية هذه الأسر وتأثيرها السياسي والاجتماعي بانقلاب تموز عام 1958 بقيادة تنظيم (الضباط الأحرار) الذي قضى على النظام الملكي، وقد حمل الانقلابيون معهم الكثير من نزعات الثأر والانتقام الموروثة عن التقاليد العشائرية، كالسحل والتنكيل بالقتلى والتمثيل بجثثهم، وأنشئت "محكمة الشعب" والتي عرفت بـ"محكمة المهداوي" نسبة إلى فاضل المهداوي وهو الضابط الذي ترأسها، وبدأت باجتثاث رجالات العهد القديم، وحوكم المئات بتهمة الولاء للنظام الملكي و"التآمر على الثورة"، وكانت كثير من هذه المحاكمات تبث عبر الإذاعة والتلفزيون، إمعانا في إذلال الضحايا وتسقيطا لهم بين الجماهير.

كما بدأ نظام عبد الكريم قاسم بتفتيت الإقطاع عبر قانون "الإصلاح الزراعي"، ودخلت البلاد في نفق الانقلابات العسكرية، وانتقلت صراعات السياسة إلى الشارع في شكل صدامات مسلحة بين القوميين وحلفائهم من جهة والشيوعيون وأنصارهم من جهة أخرى، ولم تستقر الأوضاع إلا بوصول الرئيس عبد السلام عارف إلى سدة الحكم بعد مقتل قاسم عام 1963، حيث استطاع عارف تصفية مراكز القوى في صفوف الأحزاب القومية واليسارية، وفرض سلطته بواسطة الجيش والقوى الأمنية التابعة له. 

وخلال هذه السنوات بدأ نفوذ هذه الأسر بالتقلص والتآكل بعد أن فقدوا مكانتهم الاجتماعية وإقطاعاتهم الزراعية وتأثيرهم السياسي، فغادر الكثيرون منهم العراق باتجاه لندن وعواصم أخرى هربا من محاكمات ضباط متعطشون للثأر منهم، وتعرض بعضهم للتنكيل في الداخل، فيما انزوى البعض الآخر وذاب في التركيبة السياسية والاجتماعية الجديدة، لكنهم لم يعودوا إلى واجهة الأحداث بعدها أبدا، وهكذا انطوت صفحة من صفحات الصراع بين المدينة والريف في العراق بانتصار الأخير بكل قيمه وتقاليده وأعرافه، ليتغير وجه البلاد بشكل كامل حتى إشعار آخر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.