شعار قسم مدونات

أريد أن أصبح أما الآن!

Blogs-mother
أريد أن أصبح أما الآن، هذا ما قلته فور زواجي ضاربة بعرض الحائط موضة الزوجات المثقفات بتأجيل الحمل عدة سنوات، إما بسبب طموحاتهن في العمل والدراسة والتي لا تريد لكائن "زنّان" أن يؤخرها، أو من أجل أن تعيش حياتها مع زوجها الذي تحبه قبل أن يثقل كاهلهما بطفل، وجميعها قرارات تحترم ولكن ما لا يحترم حقا التقليل من شأن المرأة التي تقرر الإنجاب والسير وراء رغبتها بأن تصبح أم، أتذكر إحدى صديقاتي التي أبدت دهشتها من رغبتي في الحمل في عامي الأول من الزواج، فهي ترى أنني على قدر من الوعي والثقافة يمنعني من هذه الرغبة! 
                  
وكأن الأم منزوعة الوعي والثقافة، ضائعة ما بين المطبخ وتغيير الحفاضات وتحضير الطعام، لماذا المثقفون يقللون من شأن الأم ويطيحون بها ولا يخرجونها من إطار المرأة الجاهلة المملوءة بعصير الطماطم ورائحة البصل! منكوشة الشعر رثّة الثياب، آخر عهد لها في العلم والقراءة والثقافة كتاب الفيزياء لأولى ثانوي!
        
الأمومة هي أصعب الوظائف التي عرفتها البشرية على مر التاريخ، والتقليل منها ليس لأنها تافهة بل لأنك غير قادر بشكل معنوي وعقلي وجسدي على إدراكها أو ممارستها، بل لا يستطيع تفكيرك وعمقك ووعيك أن يصلوا إلى حقيقة ما تفعله الأم وما تعانيه، فعليك أن تكون متأهبا على مدار اليوم لمطالب تلك الوظيفة، مستعدا بعقلك وقلبك وجسدك، عليك أن تتثقف في أنواع البراز وألوانه ورائحته وقوامه، أن تختار الملابس بعناية حتى لا تزعج بشرة الصغير، أن تتثقف حول طرق التواصل بينك وبينه، أن تتفقه في تعابير وجهه وأسلوب بكائه وحركات جسده، أن تعرف ماذا يريد دون أن ينبس بنصف حرف، وأن تشعر بألمه دون أن يقدر على وصفه وشرحه.
              
من المعجز والمذهل أن كل صباح يأتي علينا يختلف عن ما قبله، كل يوم هناك لبنة جديدة يضعها الله فيك تخبرنا أنك تكبرين وأنه يحفظك بإعجازه ومنِّهِ وفضله، أنت معجزة الله لنا يا عزيزتي

الأم قادرة على التواصل مع طفلها وهو لايزال جنينا بحجم النطفة، قادرة على معرفة ما يحب وما يكره ورسم تفاصيل شخصيته وهو لا تزال لغته الوحيدة هي البكاء، الأم تستطيع من نظرة طفلها معرفة ما أحزنه وما أفرحه، تستطيع أن تعرف ما يؤلمه وما يحزنه وما يجرح مشاعره، تستطيع أن تأخذ القرارات الصائبة دائما من أجله، الأم هي نافذة الطفل على العالم، هي مرشده وموجهه حتى يكبر ويأخذ أولى خطواته بنفسه، أن تهيء كائنا جديدا للحياة هي أقوى الوظائف تحديا وأكثرها امتلاءا بالمغامرة، لذلك المرأة التي تختار تلك الوظيفة هي أكثر النساء قوة وصلابة، هي التي لا يقدر شيء على الوقوف في طريقها وعرقلتها، هي التي تستطيع أن تدير أمة بكاملها، فإدارة منزل أصعب من إدارة أمة، لذلك تُرِك الحكم للرجال وتُرِكت البيوت للنساء، تُرك الصعب والأكثر مشقة لنا. 

         
لم أكن أعرف أنه يومي الأخير في حياتي القديمة عندما شارفت الشمس على الغروب، بدأت آلام الولادة تنتابني، ضاقت بي انقباضات رحمي، توجهت إلى المستشفى، وبدأت المغامرة. لم ألق امرأة حتى الآن تستطيع وصف آلام الولادة كما هي على حقيقتها، حتى أنا لا أستطيع أن أصف "طلقة" واحدة، جميعنا نبالغ في قول إنها شديدة ولكن كيف! لا نستطيع الوصف ولا إيجاد التشبيه المناسب، ربما سيظل الإنسان حتى انتهاء العالم عاجزا على وصف اثنين، آلام الولادة وسكرات الموت، ربما كلاهما واحدا.
             
فنحن نرى الموت بأم أعيننا، ننتقل إلى عالم آخر من الألم والخوف والقلق والارتباك، كنت أستهين بمن يقول لي أنني سأنسى كل ألم وتعب فور رؤية وليدي، ولكنها كانت حقيقة، حقيقة مؤكدة ومثبته ولا خلاف عليها ولا يستطيع أحد إنكارها، تلك النشوة من السعادة التي تصل إليها إحدانا عندما ترى طفلها، تنسى كل شيء وكأنه لم يكن، وكأن حياتها قبله لم تكن موجودة وبدأت حينما بدأ هو الصراخ والتنفس خارج رحمها، صرخت بهن جميعا أعطوني إياها، استأذنتني الممرضة بأن يراها الطبيب أولا ثم ألقتها في حضني، لا أستطيع حتى الآن نسيان نظراتها، نظرت إليّ وكأنها تعرفني وكأنها تشتكي إليّ التعب، وكأنها تقول لي "هل رأيتِ ماذا فعلوا بي! لقد أزعجوني حقا"، أعلم أن المكان كان أفضل لك وأدفأ ولكني اشتقتُ إليكِ عزيزتي وأريدكِ أن تكبري على رعاية مني وحفظا، فبعد تلك المغامرة بدأنا معا العديد من المغامرات، وبعد تلك النظرة تعددت نظراتك ومعانيها وأساليبها، لقد صرتِ كائنا حقيقيا وواقعيا، لقد صرتِ ابنتي الصغيرة وعروسي الحية.
          

لا سعادة تقارن بسعادة ابتسامتكِ الأولى، لا لذة كلذة نظراتكِ المستكشفة لما حولكِ، لا شيء أكثر عمقا وفلسفة من ذلك التواصل الروحي والمادي الذي يجري بيننا
لا سعادة تقارن بسعادة ابتسامتكِ الأولى، لا لذة كلذة نظراتكِ المستكشفة لما حولكِ، لا شيء أكثر عمقا وفلسفة من ذلك التواصل الروحي والمادي الذي يجري بيننا
 

الحياة لم تعد مثالية كسابق عهدها، جسمي وعقلي وتفكيري مرهقا دائما، لم أعد آخذ كفايتي من النوم، ولم أعد أستطيع التفكير بشكل منطقي في أي أمر من الأمور، استرق بضع لحظات في اليوم لأقرأ أو أكتب وتكون منتهى الرفاهية إن وجدت دقيقة لاحتساء مشروبا ساخنا، زاد وزني كثيرا، صرت أفكر كالنسوة الساذجات "ماذا إن تزوج والدك بأخرى أكثر رشاقة مني!" فأجده يضحك من تفكيري ويغازل كيلومتراتي الزائدة كاذبا أو صادقا لا أدر، فالنساء يعشقن الرجل الكاذب على أية حال.
      
بالرغم من كل تلك المتاعب إلا أنك فاكهتي المفضلة، بل أنتِ أفضلهن جميعا، لا سعادة تقارن بسعادة ابتسامتكِ الأولى، لا لذة كلذة نظراتكِ المستكشفة لما حولكِ، لا شيء أكثر عمقا وفلسفة من ذلك التواصل الروحي والمادي الذي يجري بيننا، الحمل والولادة أعظم معجزات الله قاطبة، فيهما يكتمل الإيمان والتعلق بالله، لساننا يهلج دائما بذكره حتى تكوني بخير، لا أتذكر أنني توقفت يوما عن الدعاء بألا تصابي بأيٍّ من توابع الولادة، بأن ترضعي بسلام، بأن تصبحي كل يوم أفضل حالا من اليوم قبله، ومن المعجز والمذهل أن كل صباح يأتي علينا يختلف عن ما قبله، كل يوم هناك لبنة جديدة يضعها الله فيك تخبرنا أنك تكبرين وأنه يحفظك بإعجازه ومنِّهِ وفضله، أنت معجزة الله لنا يا عزيزتي.

              
أنت الذي تجعليننا نستمر ونكافح ونصبر، أنت التي تجعلين والدك يبتسم في نهاية يوم شاق وتجعلين حر المطبخ هيّنا عليّ، أنت التي لم أندم على ترك أحلامي خلفي من أجلها، أنت حلمي الذي حققه الله ووهب لي إنجازاته وتوابعه يوما بعد يوم، أنتِ زينة حياتي ودُرّة سعادتي، أنت روايتي الأولى والأكثر نجاحا على الإطلاق، أنت نوري وشمسي وقمري وإبداعي الذي فاق كل التوقعات، فسلامٌ عليك في كل الأوضاع والأوقات.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.