شعار قسم مدونات

كثبان قيمية في مهب الريح

blogs مجتمع

لقد بات ما يعج به الفضاء العام من أحداث متسارعة تشكل صدمات متوالية للمتابعين وعموم المواطنين، أمر يقتضي الإفلات من أسر (اليومي) والتموقع خارجه قصد التأمل بعين فاحصة، ناقدة وبصيرة في مختلف هذه التحولات الجذرية الطارئة على مجتمعاتنا والتي لا يمكن أن نشبهها إلا بالرمال الصحراوية التي تتحرك من تحث أقدامنا من دون أن نلقي لها بالا لتشكل مشاهد وكثبان جديدة ليس لدينا أدنى صورة عن التيه الذي ستخلفه في استيعابنا لمجتمعنا والأكيد أنها ستجعلنا نضيع الطريق كما يضيعها أعرف العارفين الدهماء بالصحراء كلما تحول شكل الرمال. إننا إزاء بساط ينسحب من تحت أقدامنا في غمرة انشغالنا بالحياتي وانغماسنا باللحظي.

إن مختلف هذه التحولات ليست حتما وليدة اليوم بل هي نتيجة لتراكمات متواصلة، جعلتنا نصل إلى هذه المرحلة من الانفجارات والانفلاتات المتتابعة والمطردة. قد نختلف في تشخيص أسبابها أو تمييز الرئيسة من الثانوية منها. لكن ليس ثمت إجماعا إلا على مسألة واحدة: كوننا جميعا نسير نحو الهاوية. الارتطام بالحائط وشيك.

لعل من أبز التحولات المخيفة التي نعيشها من حولنا، ربما ألقينا لها بالا ولكن في إطار سريع خفيف دونما وقفة جادة وصرخة تكون مسموعة. لأن نمط الحياة المعاصرة والتسارع المستمر للأحداث وانكباب الجميع على فضاءات التواصل الاجتماعي التي تعطي جرعات افتراضية مخدرة تجعل الإنسان منفك عن الارتباط العضوي بمشاكله وتحجبه عن التفكير القلق فيما يجري من حوله.

مختلف التحولات المجتمعية المخيفة والمؤشرات الصادمة بالوعي الجمعي تجعلنا إزاء مجتمع يسير نحو الهاوية بدون أي رؤية ناظمة لطريقه في ظل غياب أي رؤية وأي مشروع مجتمعي واضح المعالم

من منا لم يلاحظ الالاف من الشباب الذين يدخلون في موجات من العنف والصراع القاتل في مدرجات الملاعب والتي ما فتئت تخلف ضحايا وتسقط ارواحا فتية لشباب يافعين، هل بالإمكان إخفاء حجم الانفلات الذي يقع مع كل مناسبة رياضية وحجم الكلام النابي الذي يتكرر أسبوعيا في مختلف المدرجات، حجم الضغينة والعنف اللفظي والحمولة العنيفة لكل الشعارات التي ترددها كل تالك الحناجر، انفجار عنيف من اليافعين لا تؤطرهم أي مرجعية أخلاقية. إنها قنبلة موقتة ستنفجر في وجه الجميع وقد بدأت بعض شرارتها تظهر بين الفينة والأخرى.

 

ثم ماذا عن العنف المدرسي، نفس الشريحة لكن الطارئ والتحول المخيف هو استباحة حجرات الدرس التي لها من القداسة في مما مضى ما يجعل المهابة تنتاب من يرتادها. إنه نتيجة مباشرة لسياسيات متواصلة من الاحتقار لهيئة التدريس والقتل الرمزي للمكانة الاعتبارية للمدرسة، الإعدادية والثانوية في الوعي الجمعي للمجتمع.

ماذا عن نسب تعاطي المخدرات بكل أنواعها في صفوف الشباب ونسب الانتحار، الهجرة السرية وتفضيل ركوب قوارب الموت على البقاء في هذا البلد البائس في نظرهم، العنف الأسري بين الأزواج وإثاره العميقة في نفسيات الأبناء. في مقابل عزوف تام عن التعاطي مع الشأن العام والتصويت في الانتخابات الذي قد نعتبره ردة فعل تجاه سياسة الدولة التحقيرية تجاههم، الهجرة الجماعية لفضاءات التواصل الاجتماعي هروبا من الواقع، الانحدار المستمر لنسب القراءة والاهتمام بالإنتاج العلمي، الهدر المدرسي والأمية، تكاثر برامج البوح والإفضاء النفسي والاعتراف في الإذاعات الخاصة على النمط الكنسي، وحتى الفئة التي ربما قد تكون في وضع أفضل نسبيا فغالبا ما يطغى لديها الفهم السطحي للقضايا الفكرية العميقة، والتعاطي الطقوسي مع الدين دونما صبر لأغواره واستحضار لمقاصده الكبرى في عملية التدين.

إننا أمام تيار كبير ليس يعادله أي تيار شبابي أخر في المجتمع خاصيته الأساسية اللامعنى. إذ ماذا نسمي كل هذه الشرائح من الشباب التي ليس لديها أدنى وعي بأدوارها المجتمعية والحضارية ولم تطرح بعض الأسئلة البسيطة والعميقة حول نفسها، الأسئلة التي ينبغي ألا تغيب عن أذهان أي شباب وأي شابة.. سؤال القصدية والهدفية من الحياة، سؤال بسيط لكنه محدد في حياة أي إنسان. لماذا أعيش وبأي مرجعية ولأي هدفية!

إن مختلف هذه التحولات المخيفة التي ذكرنا بعض الأمثلة عن فداحتها لأعراض واضحة ومؤشرات صادمة عن تصدع في الوعي الجمعي وعن خراب رمزي ومعنوي يسري في منظومتنا ودليل لا يحتاج إلى برهان عن أعطاب مجتمعية يجعلنا إزاء مجتمع يسير نحو الهاوية بدون أي رؤية ناظمة لطريقه في ظل غياب أي رؤية وأي مشروع مجتمعي واضح المعالم.

إننا نشهد بشكل عام في الحياة المعاصرة سقوطا أخلاقيا مدويا وانحدارا في مستوى الإنسانية. إذ أن هذا الوضع المتأزم ليس منحصرا فقط في بقعة جغرافية محددة بل هو حالة عامة في عالم معولم بلا حدود
إننا نشهد بشكل عام في الحياة المعاصرة سقوطا أخلاقيا مدويا وانحدارا في مستوى الإنسانية. إذ أن هذا الوضع المتأزم ليس منحصرا فقط في بقعة جغرافية محددة بل هو حالة عامة في عالم معولم بلا حدود
 

إننا نحتاج وبكل وضوح إلى نقد صارم لما نتورط فيه من أزمة فادحة تظهر عند المتدينين في الطقوسية والشعائرية في ظل غياب الروحانية والمقاصدية، وانفصال تام للسلوكات اليومية عن مكارم الأخلاق أما عولمة الشره والجشع وأخلاق التغلب والصراع والصدام وهو ما يفسر بشكل من الأشكال العنف المتفاقم الذي بدى واضحا حتى في أماكن كان لها إلى عهد قريب حرمة وقداسة: حجرة الدرس.

ليس الحل هو الاكتفاء بالرصد والتباكي على هذه التحولات المخيفة. بل لابد من محاولة جادة للحفر عموديا في الأسباب الجذرية التي قد تكون ورائها. إن التأمل في الأسوات التي تقدم وتصنع في الإعلام باعتبارها وحدات قياس في إنتاج المعنى في المجتمع من مثقفين، فنانين، رياضين، أبطالا وعلماء لتكشف طغيان الهشاشة والتسطيح من جراء قصف إعلامي متواصل لعقول المواطنين بنماذج تافهة وفارغة.

إننا نعيش مرحلة عدم ظهور إيديولوجيات بديلة عن تلك التي كانت إلى وقت قريب تؤطر (القومية، الاشتراكية، الإسلامية…) وتوجه وينضوي تحت يافطتها عدد كبير من المؤمنين بها بغض النظر عن صوابيه طرحها وتفسيراتها والأجوبة التي تقدمها لكنها على الأقل شكلت نماذج احتوت طموحات شرائح كبيرة من الشباب بعكس الوضع البائس الذي أصبح طاغيا، ايدولوجية اللامعنى هي السائدة تحت غطاء الرأسمالية الجشعة التي كرست نموذجا ماديا سائلا مطبعا مع أنظمة مستبدة تتاجر في مصير شعوبها من خلال تغذية الخوف من أجل استدامة المكاسب والحفاظ على الوضع كما هو عليه والاكتفاء بإنتاج أجيال من الضباع بلا لون ولا رائحة، أجيال مستقيلة تماما من مسؤوليتها الوطنية، التاريخية والحضارية لا تحمل لا هم التغيير ولا هم الإصلاح غير مساهمة في الانعتاق من غياهب الأمية، الجهل، الاستبداد.

إن ما نعيشه في العمق هو نتيجة غير مباشرة للإخفاقات المتواصلة للحداثة في تحقيق وعودها الطوباوية التي أسست بها لفعلها الفكري والتاريخي للخروج من العقل الديني الميتافيزيقي اللاهوتي

إننا نشهد بشكل عام في الحياة المعاصرة سقوطا أخلاقيا مدويا وانحدارا في مستوى الإنسانية. إذ أن هذا الوضع المتأزم ليس منحصرا فقط في بقعة جغرافية محددة بل هو حالة عامة في عالم معولم بلا حدود. إننا نعيش بكل أسف خيانة كبرى لكل الإرث الحضاري والفلسفي البشري الذي سعى دائما لتمثل فكرة العيش الكريم للإنسان بنوع من التعالي والتسامي كما تجسد ذلك في محطات عديدة في التاريخ الإنساني إلى حدود مرحلة الأنوار كتراكم لقلق إنساني مستمر وسعي لتحقيق أفضل النماذج التي تستوعب كل القيم الأخلاقية التي بها يحقق بها الإنسان إنسانيته ووجوده ككائن أخلاقي مكرم متعالي.

 

إن هذا الاضمحلال الذي تتجه فيه البشرية يمثل خيانة لعقل الأنوار بحيث ثم تقديس الأنا من خلال ظهور إيديولوجيات غير إنسانية شرعنت التسلط ورعت دكتاتوريات شمولية تقهر الإنسان ونزعات استعمارية إمبريالية أخرجت أسوء ما في الإنسان تجاه أخيه الإنسان.

إن ما نعيشه في العمق هو نتيجة غير مباشرة للإخفاقات المتواصلة للحداثة في تحقيق وعودها الطوباوية التي أسست بها لفعلها الفكري والتاريخي للخروج من العقل الديني الميتافيزيقي اللاهوتي، حيث يثبت الواقع النهاية المتواصلة لأساطيرها الثلاثة حسب الشاعر والفيلسوف الفرنسي إدغار موران أطال الله عمره: نهاية أسطورة التحكم في الكون، نهاية أسطورة التقدم والضرورة التاريخية، نهاية أسطورة تحقيق السعادة حيث لا يعيش الإنسان المعاصر إلا الضنك والشقاء.

يبقى السؤال الأساسي والجوهري هو كيف السبيل إلى المزج بين الحداثة بكل مزاياها مع استحضار التفسير الديني الغيبي الذي ربما قد يقدم أجوبة وتفسيرات من شأتها أن تساعد في إعطاء أجوبة صلبة كفيلة بتنفيس ضنك وشقاء الإنسان بإعادة الاعتبار للقيم الأخلاقية السامية لما لحمولتها القيمية الصلبة في تقويم كل الاختلالات التي تعيشها المجتمعات المعاصرة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.