رغم أن ريتشارد عالم أوبئة؛ أي أن اهتمامه متعلق بالصحة البدنية إلا أنه قال إن الفروق في المساواة أو عدالة التوزيع تؤثر بشكل رهيب على الصحة الاجتماعية، وأوضح أن المجتمع الذي يفتقر للمساواة وعدالة التوزيع يعاني من مشاكل الإدمان والإجرام والانتحار والاضطرابات النفسية، كما أن عمر الإنسان الافتراضي فيه أقل، وأضاف أن النسب ليست هينة، بل تصل إلى 8 أضعاف في حالات الحمل عند القاصرين، 10 أضعاف في حالات الانتحار و3 أضعاف في حالات الاضطرابات النفسية، كما أن مشكلة الفقر والمجاعات سببها ليس مادي بل سببها هو عدم وجود مساواة وعدالة توزيع حسب ريتشارد.
حلل ريتشارد معلومات وبيانات الأمم المتحدة والبنك الدولي التي تقوم بقياس للدخل وفروقاته في الدول، المتقدمة، فلاحظ أن دولاً كأستراليا وأميركا رغم أنها غنية وبها نظام ديمقراطي إلا أن الفارق في الدخل بين الطبقة التي تمتل 20 % الأكثر ثروة عن نفس النسبة التي تمثل 20 % الأكثر فقراً في الدولة يصل إلى ما بين 7 و9 أضعاف، بينما في دول تهتم بالمساواة وعدالة التوزيع كاليابان والدنمارك لا تتجاوز النسبة 3 أو 4 أضعاف (ربما دولنا العربية تبلغ النسبة مائة ضعف).
بعد هاته المعلومات أخد ريتشارد في جمع معلومات عن عدة مشاكل تواجه المجتمعات (كمستوى الأمية، ومعدل موت الأطفال، ومعدل الجرائم، ونسب الأمهات في سن المراهقة، والسمنة، والأمراض النفسية) فلاحظ أن الدول التي أشرنا إليها سابقا؛ أستراليا وأميركا هي الدول الأكثر معاناة وتضرراً من هاته المشاكل عكس الدول التي بها مساواة وعدالة توزيع مثل اليابان والدنمارك والسويد فهي الأقل تضرراً.
كشف ريتشارد أن ساعات العمل تكون قليلة في الدول التي بها مساواة وعدالة توزيع (عكس ما نتعرض له نحن من استغلال طوال اليوم زهاء مقابل بخيس)، حتى من المشاكل البيئية لاحظ ريتشارد أن الدول التي بها مساواة وعدالة توزيع هي الأكثر اهتماما بها، فبعد سؤال المواطنين ما هو رأيكم في أن تلتزم الحكومة بالاتفاقيات البيئية، كانت النسبة الأعلى للمجتمعات التي بها مساواة وعدالة توزيع، ريتشارد حث على ضرورة اهتمام الدول بالمساواة وعدالة التوزيع لأنها تشكل الفارق بالنسبة للمواطنين عوض تركيزها في زيادة الإنتاج والدخل القومي ورفع قيمة العملة.
أحب أن أشير إلى ما قاله مقدم برنامج (ألش خانة)، أن المجتمع الذي يفتقر للمساواة وعدالة التوزيع هو مجتمع يعاني من الخوف وعدم الثقة بين أفراده، مجتمع متوتر مريض واستهلاكي، كل فرد فيه يحاول أن يشتري أكثر وأغلى ليُبَين للآخرين أنه أعلى منهم قيمة، كما أشار إلى أن العيب والخلل ليس في الشعوب بل في الأنظمة التي تحكمها بدليل أن كثير من مواطني هاته المجتمعات يتحول إلى شبه ملاك عند هجرته لدولة بها مساواة وعدالة توزيع.
للأسف فكلام مدربي التنمية البشرية بأن ليس هنالك مستحيل، وأن الظروف والمحيط غير مهمين فالتغيير يأتي من الداخل فقط، زائف إلى حد كبير، كيف يبدع الإنسان وهو لم يحصل على حقوقه ولم يتلقى العلاج المناسب في المسشفى، كيف يبتكر ويخترع وهو يحس بالجوع مع الذِكر أنه قد تعرض بالأمس لركلة من أحد أفراد الشرطة، كيف يقرأ كتابا به ألف صفحة عن أصل الكون وهو يعمل 14 ساعة مقابل راتب قد لا يكفيه في تغطية حاجياته الأساسية حتى، لكن الأغرب أن ريتشارد قد أعلن هذا سنة 2011، لكن لم يتغير شيء، فالعالم بل وربما ازداد سوءا.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.