شعار قسم مدونات

الصِّحافة.. والحِمى المستباح!

مدونات - صحافة قراءة جريدة صحفي عمل

عندما كنتُ صغيراً كنتُ أذهبُ إلى محلِّ خالي، وكان يعملُ في إصلاح الدَّراجات الآلية. وكنتُ أنظرُ إليهِ بإعجابٍ حينَ أرى بقعَ الشحمِ تعلو ثوبَه وأقولُ في نفسي: يا لَه من مصلِّحٍ بارع! وكنتُ أتنحَّى جانباً وآخذُ الشَّحمَ فألطِّخُ به ثوبي؛ ظنَّاً منِّي أنَّه كلَّما زادت بقعُ الشَّحمِ فقد صرتُ بارعاً في هذه المهنة، عارفاً بدقائقِها.

 

تذكرتُ هذه الحال اليوم، وأنا أنظرُ في مهنة الصِّحافة على امتداد رقعة الوطن العربي. ليت شعري! هل هناك مهنةٌ مُستباحةُ الحِمى أكثر من هذه المهنة؟! لقد صارت مهنةُ الصِّحافة صنعةَ من لا صنعةَ له، يتقحَّمُ أسوارَها كلُّ هاوٍ، ويجترئُ عليها أيُّ مبتدئٍ، لا يمنعُه منها أحد، ولا يَحجزُه عنها شيء. يرعى كلُّ راعٍ حول حِماها ثمَّ يرتعُ فيه وهو مطمئنُّ البالِ ألا أحدَ هناكَ يمنعُه من الدُّخول، أو يحاسبُه بعدَ الدُّخول، وما ظنُّكَ بعرينٍ نام عنه أُسُودُه، فرتعتْ فيه الثعالبُ بلا حسيبٍ ولا رقيب؟!

 
لا تكادُ تفتحُ موقعاً من المواقعِ إلا وتطالعُك عشَراتُ الأسماء الرَّنَّانة، فإذا تصفَّحتَ مقالَ أحدِهم وجدتَه متهالكاً، يلعنُ بعضُه بعضاً، ويتبرَّأُ بعضُه من بعض. فكأنَّما جَمَعَ صاحبُه الكلماتِ ورصفَها رصْفاً دون مِلاط (أسمنت)، فصارت كلُّ كلمةٍ تتقلقلُ في مكانِها، وتكادُ تقفزُ منه لولا الإطارُ الذي أحاط صاحبُ المقالِ كلماتِه به.

 
لقد كانت مهنةُ الصِّحافةِ في السَّابق تسمَّى الكتابة، فكان الصَّحفي (الكاتب) لا يبلغُ مرتبةَ "الكتابة" حتَّى يقرأ مئاتِ الكتب، ويُحيطَ بعددٍ من العلوم التي تؤهِّلُه لأَن يكونَ ناطقاً عن الملكِ أو الأمير، أو متحدِّثاً باسمِ ديوانٍ من الدَّواوين. وكان الصَّحفيّ (الكاتب) يتولَّى الرَّدَّ عن الأمراءِ والملوك، ثمَّ يعرِضُ ردَّه على ذاك الأميرِ أو الملك، فيختِم الرسالةَ لتُرسل ممهورةً بختمه. وقد يبُبيحُ بعضُ الملوكِ للكاتب أن يتولَّى ختمَ الرسائلِ دونَ عرضِها عليه ثقةً منه بقدرة ذاك الكاتب على الرَّد. ولذلك فقد كانت هذه المهنة من الأهميَّة بمكان، ولم يكن يصلُ إليها إلا الأفذاذُ من الكُتَّاب، بعد أن تحنِّكَهم التجارِب، وتصقلَهم الخبرات.

 

إنَّ المتشبِّهين بأبي مسهر اليوم، يتطاولونَ على غيرِهم؛ لأنَّهم يجدونَ حولَهم من المطبِّلين ما يخدعونَ به جموعَ النَّاس؛ ليموِّهوا عليهم الحقيقة
إنَّ المتشبِّهين بأبي مسهر اليوم، يتطاولونَ على غيرِهم؛ لأنَّهم يجدونَ حولَهم من المطبِّلين ما يخدعونَ به جموعَ النَّاس؛ ليموِّهوا عليهم الحقيقة

 

لذا فقد وضع السَّابقون كتباً عديدةً تأخذُ بيد الكاتبِ المبتدئِ لتوصلَه إلى غايتِه ككتاب "أدب الكاتب" لابن قتيبة، وكتاب "أدب الكُتَّاب" للصُّولي، وكتاب "صبح الأعشى في صناعة الإنشا" للقلقشندي (وهو حوالي أربعةَ عشرَ مجلَّداً). ومع ذلك يبقى الكاتبُ على خطرٍ من مهنتِه هذه، فتراه قلقاً وجِلاً، لا يتبجَّحُ ولا تزيدُه كتابتُه بأْواً على الآخرين؛ لأنَّه يرى نفسه يسيرُ في طريقٍ صعبٍ كثيرِ المزالق، فهو يسعى إلى تطويرِ نفسِه، وتحسينِ أدائِه، ومواكبةِ جميعِ المستجدَّات.

 

أمَّا في عصرِنا هذا، فتجدُ شخصاً قد اشترى برنامج "الطباعة باللمس" فتدرَّبَ عليه، وصار سريعاً في رصفِ الكلمات. ثمَّ دخل دورةً من دورات تعلُّم الصِّحافة أو كتابة ِالسِّيناريو والإخراج التلفزيوني، فلمَّا انتهى من الدورة بدأ بكتابة المقالاتِ الصَّحَفية والتحليلاتِ السياسية. ثمَّ صار ينشرُ مقالاتِه ومدوَّناتِه على الفيسبوك أو المواقعِ المشهورة التي تُبيح لكلِّ كاتبٍ أن ينشرَ ما يشاءُ وقتَ يشاء. بل إنَّه قد يدفعُ بعضَ المالِ لإدارات مواقع التَّواصل الاجتماعي ليقدِّموا له على صفحتِه حزمةً من المتابعين، لو سعى الخليلُ بن أحمد الفراهيدي وابن المقفَّع والمتنبِّي وغيرُهم إلى تحصيلِ مثلِها لَما وصلوا إليه إلا بعدَ تطاولِ السِّنين وتراكمِ الخبرات والتَّجارِب.

 

وأنا لا أنكر الفائدةَ التي قد يحصِّلُها المتدرِّبُ من بعضِ الدَّوراتِ السَّريعة، التي تكونُ بمرتبةِ معالمَ على الطريقِ، يسترشدُ بها مَن يسيرُ في طريق تلك المهنة؛ حتى يبلغَ الغايةَ التي يصبو إليها. أمَّا أن تكونَ تلك الدَّوراتُ هي غايةَ المأمول، ومنتهى الأحلام، ونهايةَ المَطاف، فإنَّ مثَلَ صاحبِها كمثَلِ أبي مِسهَر الذي كان يدَّعي الكتابةَ في عصرٍ كان فيه للكتابةِ مكانةٌ مرموقة، فقال فيه الشَّاعر:

حمارٌ في الكتابةِ يدَّعيها *** كدعوى آلِ حربٍ في زيادِ
فدعْ عنكَ الكتابةَ لستَ منها *** ولو لطَّختَ ثوبَكَ بالمِدادِ

ولئِن كان أهلُ ذاك العصر مبْتَلَين بأبي مِسهَرٍ واحد، فإنَّ بيننَا اليوم ألوفاً من أبي مسهر. ولئنْ كان أبو مِسهَرٍ سابقاً يَحشرُ نفسَه بينَ الكُتَّابِ ليُحسَبَ منهم وهو خائفٌ وجِلٌ، ويعرفُ قَدْرَه فلا يتجرَّأُ على التَّطاولِ على أرباب هذه المهنة، فإنَّ المتشبِّهين بأبي مسهر اليوم، يتطاولونَ على غيرِهم؛ لأنَّهم يجدونَ حولَهم من المطبِّلين ما يخدعونَ به جموعَ النَّاس؛ ليموِّهوا عليهم الحقيقة. وما هم إلا سَرابٌ خادعٌ يحسبُه الظمآنُ ماءً، حتى إذا جاءَه لم يجدْه شيئاً، ووجدَ أبا مسهرٍ هناك يأخذُ بيدِه الشَّحمَ والمِداد لا ليلطخَ به ثوبَ نفسِه فحسب، بل ليلطخَ وجهَ مهنةٍ كانت محترمةً قبل أن يلجَها هو وأمثالُه من المخادعين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.