شعار قسم مدونات

"قيامة أرطغرل" عظمة التاريخ وسحر الفن

مدونات - مسلسل تركي أرطغرل

لستُ من هُواة مُتابعة المسلسلات، وأرغبُ عنها لصالح القراءة تعصبًا حتى النخاع. ولكنَّ مسلسل "قيامة أرطغرل" فرَّض نفسه عليَّ منذ أنْ شاهدته ذاتَ حلقةٍ من غير قصدٍ، وأنا أُقلِّب المحطات الفضائية للبحث عن قناةٍ تسرُ الخاطر، وتُقدمُ شيئًا مختلفًا. ومن حينها حرصتُ أنْ أبحث عن الحلقات التي فاتتني، وتابعت كل الحلقات التالية، وأترقبُ كل حلقة جديدة بلهفة وشوق.

 
وأظنُ أنَّ المسلسل فرَّض نفسه على عددٍ كبيرٍ جدًا من المشاهدين بنسخته التركية ابتداءً، ونسخته العربية المترجمة أو المدبلجة، وعلى مشاهدي دول أخرى اشترت حقوق بث المسلسل وترجمته أو دبلجته إلى لغاتها، وهو ليس أولُ ولا آخرُ مسلسلٍ تركي يحظى بشعبية كبيرة، ولكنه -ربما- يكون الأكثر شعبية على الإطلاق، ومما ضاعف من شعبيته أنه من المسلسلات النظيفة التي لا يتحرج المرء أن يشاهده برفقة أسرته، ويحرص على حضور أطفاله له، ويدعُ الآخرين لمشاهدته. ومن اللافت أنَّ مُدَّة كل حلقة -مترجمة عربيًا- لا تقل عن ساعتين دون أي إعلان أو فاصل، ومع ذلك تبقى الأنظار مشدودة إلى الشاشة إلى آخر لحظة، دون ملل أو شرود أو تشاغل، بل وأمل أن لا تنتهي الحلقة.

 
يتناول المسلسل فترة حرجة مضطربة في التاريخ حيث الغزو المغولي، والحروب الصليبية، ونهايات الدولة السلجوقية، وصراعات الأمراء الأيوبيين، وشكلية الخلافة العباسية، وإرهاصات قيام الدولة العثمانية، وما يواكب ذلك عادة من مؤامرات ومكائد وخيانات وصراعات قبلية، ونزاعات على السيادة، وأعمال جاسوسية وحصار ودمار وغيرها.

 
مسلسل "قيامة أرطغرل" ليس مثاليًا بالطبع، فثمة أخطاء وملاحظات سلبية كثيرة، من مثل: خلو المسلسل من عرض أو ذكر مواسم الحج وشهر رمضان ولو تلميحًا، ومشاهد القتال والدم الكثيرة المبالغ فيها أحيانًا، مما يشكل عائقًا تربويًا أمام مشاهدة الأطفال الصغار لهذا المسلسل الذي لا يُعوض، والتركيز الكبير على موائد الطعام والأكل، فكل اجتماع لا يكون إلا على طعام. والكتب والمصاحف التي تم توظيفها في المسلسل (من حيث نوعية الورق والطباعة)، وخاصة التي يستخدمها ابن عربي لا يمكن أن تكون موجودة في عهد أرطغرل، فكتب المسلسل تنتمي إلى قرون لاحقة بالتأكيد، وعدم الانسجام بين عدد المقاتلين والخسائر بين الطرفين، فعدد مقاتلي أرطغرل قليل دائمًا ولكنه ينتصر على عدد الأعداء الكبير، وغالبًا يخسر الأعداء عددًا كبيرًا، فيما لا خسائر تذكر عند مقاتلي أرطغرل. ولكن جميع هذه الملاحظات وأضعافها تصبح هامشية وثانوية قياسًا إلى إيجابياته ومميزاته وروعته، فهو ملحمة درامية مدهشة على مستوى النص والتمثيل والإخراج والتصوير وغيرها من فنيات وتقنيات الأعمال الفنية لا ينكرها إلا حاقد أو حاسد.

 

undefined

 

وكأي عمل بشري، للمسلسل محبين كثر، ومنتقدين وناقمين كثر أيضًا، ولكل أسبابه وتبريراته، وسنضرب صفحًا عن رأي المحبين، فالحب لا يحتاج إلى مبررات منطقية، فالمشاعر غلَّابة، والذائقة تحكم، والثقافة تلعب دورها، وغيرها مما لا يمكن الإحاطة به.

 

بداية لا بُدَّ من الإشارة إلى أعداء النجاح وحساده، فهؤلاء يُكدِّر خاطرهم أي عمل ناجح لا يد لهم فيه، ولو كان أعجوبة زمانه، إلا إذا كان غربيًا هوليووديًا، لأنَّ عُقدة النقص ما زالت تحكم بعضنا، ونرى أن الشرق أقل شأنًا، ولا يجوز له أن يرفع رأسه للأعلى، ومن العيب أن يبرز شرقي ويبدع، وخاصة إذا كان عربيًا أو مسلمًا. ولعل الموقف السياسي من تركيا أردوغان يلعب دورًا مؤثرًا كبيرًا في العداء لهذا المسلسل، خاصة وأن كثيرًا من الأقاويل تشير إلى دعم أردوغان وحزبه للمسلسل، وأيًا يكن، فالأصل أن يُحاكم المسلسل فنيًا كعمل درامي بحت، لأن كل عمل فني في النهاية محكوم برؤية مخرجه أو منتجه، ولا عمل فني بريء من موقف سياسي أو فكري. يأخذ البعض على المسلسل أنه تلميع لتركيا الحديثة من خلال إعادة إنتاج تاريخها دراميًا، ولا أدري أين العيب في ذلك، فمن حق أي دولة أو جماعة أن تستحضر تاريخها وتعيد إنتاجه، خاصة وأن جميع الدول في العالم والطوائف والأمم تفخر بتاريخها وتدرسه للأجيال، وتعظم من إنجازاتها القديمة مهما صغرت. بل إن بعض الدول تصنع لها تاريخًا زائفًا، لتفخر به على غيرها، أو علاجًا لعقدة النقص التي تعاني منها.

 
ويرى أخرون أن المسلسل فيه مبالغات كثيرة من حيث أسطورية أرطغرل ومقاتليه، وأنهم قوة لا تقهر، وهؤلاء ينسون أن المسلسل التاريخي كالرواية التاريخية يستلهم التاريخ ولا يكتبه، فالعمل الفني هو إبداع في المقام الأول، وله أن يقدم العمل بالطريقة والكيفية التي يراها مناسبة، ولذا فالمبالغة هنا تقنية درامية لا يخلو منها أي عمل فني مهما كان نوعه أو تصنيفه. دور ابن عربي وشطحاته كانت من المآخذ أيضًا على المسلسل، وهذه أيضًا نحيلها إلى أنه عمل فني، وليس عملًا وثائقيًا، ولماذا يتقبل البعض الواقعية السحرية وغرائبها، وعجائب الأفلام، ولا يتقبل دور ابن عربي وشطحاته، لم لا نعتبره شخصية مختلقة لها دورها للخروج من بعض الإشكالات والعقد والمآزق التي يصادفها الكاتب هنا أو هناك؟!

  
ويأخذ البعض على المسلسل أنه أغفل ذكر العرب وأساء إلى الأيوبيين، ونكرر أيضًا أن المسلسل ليس تاريخًا، وهو يهدف في الأساس لإبراز دور أرطغرل وقبيلته في التمهيد للدولة العثمانية، ثم إن المناطق التي تدور فيها أحداث المسلسل لا وجود للعرب فيها، ما عدا مدينة حلب، التي وقعت فيها بعض الأحداث التي لم يكن للعرب صلة مباشرة بها. ويكفي ابن عربي ودوره البارز مندوبًا عنهم. أما الأيوبيين الذين عاصرهم أرطغرل، فقد قال عنهم المؤرخون أكثر مما ألمح إليه المسلسل، ويكفي أن الصراع كان محتدمًا بين أمرائهم، وسلموا القدس ثانية للصليبين بعد أن حررها صلاح الدين مؤسس الدولة الأيوبية.

 

شخصية ابن عربي من مسلسل قيامة أرطغرل (مواقع التواصل)
شخصية ابن عربي من مسلسل قيامة أرطغرل (مواقع التواصل)

 
ويرى آخرون أن فكرة المسلسل تقوم على "نظرية المؤامرة"، وأرى أنه قد اختلط عليهم الأمر، فقد أصبحت هذه تهمة يقذف بها أي إنسان أشار إلى وجود خطط وبرامج للأعداء أو الخصوم، ولكن الحقيقة أن الحياة برمتها تقوم على الصراع بين الخير والشر، بين أشواق الإنسان وأطماعه، بين عباد الرحمن وأتباع الشيطان، بين الفضائل والرذائل، بين النور والظلام، ولا ينكر ذلك عاقل، ثم إن العداء مستحكم بين المختلفين على مر التاريخ، فهل يعقل أن يركن طرف إلى الدعة ويستسلم لمصيره حتى لا يوصم أنه من أتباع "نظرية المؤامرة"؟!

 
لست محامي دفاع عن المسلسل، وأؤمن أن انتقاده حق مشروع للجميع، ولكن من العدالة أن يكون النقد موضوعيًا ومنصفًا بعيدًا عن التعصب والأحقاد التاريخية والمواقف السياسية، ثم لنلتفت إلى أنفسنا وماذا أنتجنا من أعمال فنية تاريخية مماثلة أو مقاربة لـ"قيامة أرطغرل" نستطيع أن نتفاخر بها، ونحن الذين نتغنى بتاريخنا ليل نهار، ونحسب أن الله لم يخلق على الأرض أفضل أو أكرم منا!!

 
إن مسلسل "قيامة أرطغرل" بمواسمه الأربعة حتى الآن، عمل درامي متميز جدًا، أظهر التاريخ المشرف المشرق لقبيلة صغيرة مجاهدة أصبحت نواة لدولة مترامية الأطراف تتمدد على أراض واسعة في قارات ثلاث، في مقابل خصوم وأعداء كثر، وصراعات لا تهدأ، وخيانات لا تنتهي، كما أنه -أي المسلسل- تحفة فنية مدهشة ساحرة، وعمل إبداعي على سوية عالية، وهو يعتبر بحق أكاديمية متقدمة للممثلين، وكل ممثل عمل فيه، سيتخرج منه نجمًا، ولا أشك أن كل ممثل رفض العمل فيه ابتداءً، يعض أصابعه الآن ندمًا وحسرة.

 
وأخيرًا، فهذه شهادة من الكاتب والسيناريست المعروف رياض سيف: "رغم التطويل في الحوار والتكرار في المعلومة… إلا إنني ولأول مرة أجد أن كل هذا التطويل والتكرار في نقل المعلومة لا يقلل من شأن المسلسل، بل يزيده نكهة خاصة لا تقل نكهة عن حكايات ما قبل النوم التي كنا نسمعها صغارًا من جداتنا وأمهاتنا بكل شغف وانتباه، وهنا تكمن البراعة والحنكة في قلب مفاهيمنا عن الدراما التي عرفناها".

 
"وأهم ما في هذا العمل المتميز أنه يعيد قراءة التاريخ برؤيا درامية مشوقه تُنمي روح الكبرياء لدى الأجيال، وتزرع قيمًا عظيمة في الانتماء والتربية الإسلامية السامية في نفوس الصغار قبل الكبار. بل وتمنحهم جرعة حب الفداء والتضحية من أجل أوطانهم ومعتقداتهم النبيلة. هي مدرسة متكاملة انعدمت في مناهجنا التعليمية، وجاء هذا العمل لسد نقص كبير وخطير في نشأة إنساننا، الذي بات يتخبط من هول ما يجري حوله من تزوير وتعهير، وانسياق خلف إعلام مغرض ومدروس من قبل بعض محطاتنا العربية التي تمسك بعصب الإعلام وتوجهه حسب ما هو مخطط لها في إفراغ العربي من قيمه وأخلاقه وانتمائه نحو وطنه وأمته."

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.