شعار قسم مدونات

عالم بلا مدارس

blogs - تلاميذ في مدرسة عربية

لاحظوا أني لم أقل "عَالَمٌ بِلا تَعْليم"، بل "عَالَمٌ بِلا مَدارِس"؛ لأنَّ التعليم فطرة وقدر الإنسان منذ صرخة الولادة -وربما قبلها- إلى أن تبلغ الروح الحلقوم. ولكن مشكلتنا أننا نربط العلم والتعلم بالمدرسة، وأنه بدونها لا يُمكن أن يتعلم الإنسان. وهنا تكمن المغالطة الكبرى التي وقعنا أسرى لها قرون عدداً.

  
إنَّ مصادر التعلم كثيرة لا تحصى، وكلما كان المرء أكثر نشاطاً وحركة وسعياً تعددت وتوسعت مصادر علمه ومعرفته، مثل الكتب والأقران والأسرة وسوق العمل ووسائل الإعلام والإنترنت ومواقع التواصل والمسجد والسفر والشارع وتجارب الحياة بحلوها ومرها والتأمل والتفكير، وغيرها كثير.

  
والمدرسة إحدى هذه المصادر، ولكنها -في وقتنا الراهن- ربما تكون أقلها تعليماً وأكثرها خطراً، لأن المدرسة تسعى بالدرجة الأولى لتحقيق أهداف السلطة التي تتبع لها المدرسة، سواء كانت سلطة حاكمة، أو سلطة دينية أو حزبية أو فئوية أو طائفية أو عرقية، وأهم هدف خفي حقيقي لأي سلطة، هو تدجين الطلبة وغسل أدمغتهم، وإعادة برمجة عقولهم وقلوبهم ليصبح الطلبة مجرد قطيع تابع للسلطة، لا يرى إلا بعينيها، ولا يسمع إلا بأذنيها، ولا يفكر إلا بعقلها، ثم يتحول إلى مُسَبِّحٍ بحمدها، ومُصَفِّقٍ لكل إنجاز لها وإن كان وهمياً، ويدافع عن أخطائها وجرائمها وإن كان أعز الناس ضحيتها.

  
ثم إن المدرسة -ومن واقع الحال- تحقن الطلبة بمعلومات لا خير في كثير منها، حفظها لا ينفع، وجهلها لا يضر، ولا تلتفت المدارس -للأسف- قاصدة متعمدة لتعليم الطلبة مهارات الحياة الأساسية الضرورية لمعاركة الحياة ودروبها، ولذا نرى نتاج هذه المدارس من أجيال اتكالية لا تتحمل المسؤولية، أجيال تائهة مضطربة حائرة، أجيال فارغة فكرياً وأخلاقياً، أنانية لا تهتم بشيء إلا إذا جلب لها المتعة الشخصية، وما عداه فإلى الجحيم.

  
إن معظم أطفالنا يتعلمون القراءة والكتابة قبل دخولهم المدرسة، وتبقى الأسرة ترعاهم وتتابعهم حتى نهاية الحياة المدرسية، ولو أسقطنا المدرسة من حسابنا، وتركنا الطفل للبيت والشارع والحياة لتعلم أكثر وأفضل، لتعلم ما ينفعه ويفيده ويسنده في مسيرته الحياتية، ولكن ما يُجبر الطلبة على الالتزام بالمدارس البائسة أن دخول الجامعات مرتبط بنتائج المدرسة، والوظائف تتطلب شهادات جامعية، ووراء كل ذلك مسؤولين متخلفين ربطوا هذه بتلك، مع أن الواقع يقدم نماذج مضيئة تفند هذا الترابط الحتمي، فربَّ (جاهل) لم يدخل المدارس والجامعات أمهر من مهندس، وأوعى من أستاذ جامعة، وأنفع لبلاده من عشرات يحملون الشهادات العلمية، ولكنهم في الحقيقة كالحمار يحمل أسفارا.

 

إن المدارس أدوات تدمير للأجيال، وإعاقة للمستقبل، وتضييع لأعمار الطلبة وجهودهم وأموالهم، وإفساد لذائقتهم، وتشويه لعقولهم
إن المدارس أدوات تدمير للأجيال، وإعاقة للمستقبل، وتضييع لأعمار الطلبة وجهودهم وأموالهم، وإفساد لذائقتهم، وتشويه لعقولهم

 
آن الأوان في عصر ثورة المعلومات وسيادة وسائل التواصل والاتصالات أن تتغير المدارس وتتطور وأن تختلف وظائفها وأدوارها، وأن تعيد النظر في أدواتها ووسائلها، فما كان صالحاً قبل عقود، أصبح اليوم قيوداً وعوائق. والمؤسف أن كل شيء في العالم تطور بشكل مذهل، إلا المدارس فإن تطورها سلحفائي مقيت، وأحياناً يكون تراجعاً إلى الخلف.

 
آن الأوان أن تتخلى المدارس عن وظيفة التعليم، وتتركها للوسائل الجديدة المتطورة الأكثر قدرة منها، برعاية الأسرة بالتأكيد، وأن تتفرغ المدرسة للوظيفة التربوية والاجتماعية لإدماج الطلبة وتعاونهم وتفريغ طاقاتهم من خلال ممارسة مهارات مفيدة نافعة كالرياضة والفنون وغيرها.

 
إن المدارس -في واقعها الحالي- أدوات تدمير للأجيال، وإعاقة للمستقبل، وتضييع لأعمار الطلبة وجهودهم وأموالهم، وإفساد لذائقتهم، وتشويه لعقولهم، وحط لقدراتهم، وسبب رئيس في مسخ شخصياتهم وتقزيمها. ولا تختلف الجامعات عن المدارس في جوهرها، فهي تكمل وظيفة المدرسة الخفية، ومهمتها الغربلة، والتأكد من جودة القطيع، وأنه لم ينحرف عن المسار. وللجامعات مقالة خاصة لاحقة إن شاء الله.

 
لا أقلل من أهمية وقيمة العلم، فالحياة لا يمكن أن تستقيم دون تعلم وتعليم وعلم ومعرفة، ولكن من السخف ربط العلم والتعلم حصرياً بالمدرسة والجامعة، وأن يقضي الطالب عقدين من الزمن ليتعلم مواداً لا تنفع في مجملها ولا تبني شخصيته، وفق أنظمة وتعليمات وأدوات ووسائل متخلفة ضررها أكبر من نفعها. فهل يعقل أن يمضي طالب عشرين عاماً في الدراسة ليعمل في النهاية محاسباً أو مدخل بيانات أو مهندساً أو حتى طبيباً؟! لم لا تتولى الشركات والمستشفيات والمصانع والمؤسسات والوزارات مهمة تعليم من تريد بعد اختبار قدراتهم ومهاراتهم، وتعليمهم التخصص المطلوب عملياً داخلها مباشرة دون إضاعة وقت في مواد مشتتة، تشكل عبئاً على الطلبة، وتكون سبباً -في الغالب- لفشلهم وتراجعهم.

 
إن الطلبة الأكثر التزاماً بأنظمة المدارس وحفظ المعلومات المدرسية، هم -في الغالب- الأفشل في الحياة، أو -على الأقل- الأقل تأثيراً، لا يتركون أي بصمة في حياتهم، يدخلون ويخرجون كما العدم، أثر الفراشة لا يزول، أما هم فلا أثر لهم ابتداءً.

 

يوجد طلبة مميزون، مبدعون، ولكنهم نتاج قدرات شخصية، وأسر تتابع وتراقب وتواصل الليل والنهار، أو نتاج جهود فردية لمعلمين لا منتمين للنظام التعليمي الفاشل
يوجد طلبة مميزون، مبدعون، ولكنهم نتاج قدرات شخصية، وأسر تتابع وتراقب وتواصل الليل والنهار، أو نتاج جهود فردية لمعلمين لا منتمين للنظام التعليمي الفاشل

 
إن عالما بلا مدارس على هذه الشاكلة، عالم أجمل وأفضل وأكثر قابلية للتطور والتحسن، لأن عالما بلا مدارس أفضل من عالم بمدارس منفرة للطلبة، مدارس بقضبان من التعليمات والأنظمة البائسة، تقدم مواد دراسية لا يستسيغها معظم الطلبة لفقرها وبعدها عن واقعهم واحتياجاتهم واهتماماتهم، يقوم عليها موظفون بصفة معلمين -وكنتُ أحدهم- ومعظمهم -في الحقيقة- لا يؤمنون برسالة التعليم، وإنما هي مصدر للدخل، ووظيفة متاحة بعد أن سُدَّت في وجوههم السبل، وإلا فأين المعلم القدوة النموذج الذي يلهم الطلبة، ويقدح في عقولهم شرارة الوعي والإبداع والتميز؟! أين المعلم الذي اختار تخصصاً تعليمياً عن وعي وقصد ليكون معلماً؟! أم اضطرتهم معدلاتهم المتدنية في الثانوية العامة لتخصصات لا يرغبونها، ولكن لا بديل لها؟!

 
إن عالما بلا مدارس عالم خالٍ من السجون التعليمية التي لا تختلف في حقيقتها وأهدافها عن مزارع الدواجن، تأخذ أطفالنا في أول تفتح براعمهم، وتمتص زهرة عمرهم، ثم تقذفهم إلى الحياة دون مهارات أو أشرعة أو مجاديف أو أجنحة، فيضيعون ويتيهون في الدروب، يتخبطون في ظلام الواقع البائس، فلا يتبينون طريقهم -إن فعلوا- إلا بعد فوات العمر.

 

نعم يوجد طلبة مميزون، عمالقة، مبدعون، قادة، ولكنهم نتاج قدرات شخصية، وأسر تتابع وتراقب وتواصل الليل والنهار، أو نتاج جهود فردية لمعلمين لا منتمين للنظام التعليمي الفاشل، آمنوا برسالتهم ودورهم الحقيقي في هذه الحياة، فبذلوا وقتهم وجهدهم وفكرهم لبث الوعي، وري البذور، ورعاية البراعم حتى تستوي على سوقها فتزهر وتثمر.

 

يقول إيفان إليش: المدرسة هي الوكالة الإعلانية التي تقنعك أنك بحاجة للمجتمع كما هو. إنها تجعلك تعتقد أن للحياة سراًّ لا يعرفه إلا هؤلاء المدرسين

أقول لكم سراً يا سادة، أنا لست متطفلاً أو مفتئتاً على التعليم والمدارس، فقد خدمت في سلك التربية والتعليم 25 سنة وازدادت يوماً معلماً ومشرفاً تربوياً ومدرباً ومؤلفاً للكتب المدرسية ومسوقاً للأوهام. أي أنني أتكلم من تجرية ميدانية طويلة وواسعة من داخل أتون المدارس وسجونها. ولذا أقول اتركوا الأطفال للحياة تعلمهم حسب متطلباتها وحاجاتهم ورغباتهم، دعوا الحياة تعلم أولادنا، دعوا الشوارع، دعوا الآلام تكسبهم صلابة وخبرة، دعوهم يقعون مرة ومرات ثم يقفون بقوة وشموخ، بعد أن تبينوا طريقهم، وامتصوا رحيق التجربة، وعركوا الصعاب والمخاطر، فسينطلقون إلى المستقبل بقوة وعزيمة وبصيرة، وأهداف واضحة، وأحلام واعدة.

 
وأخيراً أقول لكم، لست بدعاً، فقد سبقني من نبه وحذر من خطر المدارس وفشلها، أنقلها من موقع أراجيك:
– في الواقع أي عملية تعليم هي تعليم ذاتي، ولا توجد أي مدرسة مهما كانت كفاءتها، قادرة على إعطائك تعليماً حقيقياً. ما تتلقاه في المدرسة أشبه بحدود رسومات في كتاب تلوين للأطفال، وعليك أن تلوّن الفراغات بنفسك." لويس لامور- قاص أمريكي.
– مجتمعنا يحتاج لهؤلاء الذين يعرفون كيف يحصلون على المعلومة لا كيف يتذكرونها، وهؤلاء الذين يستطيعون التكيّف مع المتغيرات بطريقة أكثر ذكاء. وهما الشيئان اللذان لا نتعلمهما في المدرسة." ويدني بريسنيتز – كاتبة كندية متخصصة في التعليم.
– التعليم هو ما يتبقى في عقولنا بعد أن نكون قد نسينا كل ما تعلمناه في المدرسة." أينشتاين.
– أؤمن بكل ثقة أن التعليم الذاتي، هو التعليم المُثمر الوحيد على وجه الأرض." إسحاق عظيموف – روائي وكيميائي روسي.
– التعليم الرسمي يوفر لك لقمة العيش. التعليم الذاتي يجعلك صاحب ثروة." جيم رون – خبير تنمية بشرية أمريكي.
– التعليم هو شيء رائع فعلاً، لكن من الجيد أن نتذكر من وقت لآخر، أن جميع الأشياء التي تستحق، لا يمكن لأحد أن يُعلِّمها لك." أوسكار وايلد – شاعر أيرلندي.
– المدرسة هي الوكالة الإعلانية التي تقنعك أنك بحاجة للمجتمع كما هو. إنها تجعلك تعتقد أن للحياة سراًّ لا يعرفه إلا هؤلاء المدرسين، ولا يمكن لك أن تعرفه إلا من خلالهم، أو تكتسب منزلة أعلى في المجتمع بدون هذه الوسيلة.." إيفان إليش – فيلسوف وقس أسترالي يدعم التعليم المنزلي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.