شعار قسم مدونات

التطفل المغلف بأكذوبة الاهتمام

Blogs- فضول

الخصوصية هو المصطلح الأكثر تشردا في مجتمع يضج بالاهتمام المقنع المبني على الأسئلة المتنوعة حول الشكل والمضمون لحياة الفرد، فلم يخلُ أحد من أسئلة مستفيضة حول حياته الخاصة والعامة، ماذا ومن ومتى وكيف وأين ولماذا؟ الأسئلة الست التي اعتدناها لإعداد الفنون الصحفية على مختلفة أشكالها وقوالبها المختلفة، هي ذات الأسئلة لكنها ليست لذات الاستخدام، ليس لنشر القضايا وتفسيرها وتوجيه الرأي العام اتجاهها، بل هي مختلفة باختلاف الأشخاص والزمان والمكان.

 

هي أسئلة اجتمعت لتكون إجاباتها مادة خصبة عن حياة الشخص، اشباعا لرغبة الفضولي الذي لا ترضيه إجابة واحدة او اثنتين لأن أي إجابة يتبعها سؤال آخر لا ينتهي إلا بانتهاء شهيته لمعرفة التفاصيل التي لا شأن له بها. الخصوصية هي مبدأ حقوقي ينطبق على الفرد كحق له على الجماعة التي ينتمي إليها، وذلك بعدم اقتحام حياته الخاصة، ما دام لا يضر أو يخل بحقوق الآخرين، حق يجب أن يُراعَى ويصان لا أن يتم قمعه بأسئلة خرافية تطال المأكل والملبس والراتب والعمل بشكل صارخ ومثير للجدل والاشمئزاز، حيث باتت الخصوصية ضحية للفضول المرضي من قبل الكثيرين الذي يجعلون من حياة الآخرين شغلهم الشاغل وساهمت وسائل التواصل الاجتماعي في إهدارها بشكل مقصود أو غير مقصود.

  
الاهتمام هو القوة الناعمة التي يستخدمها الكثيرون لتمرير انتهاك الخصوصية بشكل لا يسئ لشخوصهم، ولا يصنفهم كفضوليين خصوصا إذا كانوا من درجات القرابة سواء البعيدة أو القريبة. فيجلعون منه بوابة للاستطلاع تحت عناوين مختلفة وتحت كل عنوان أسئلة لا نهاية لها. ماذا أكلت وماذا شربت وكم تنفق شهريا. التطفل الذي يصل إلى حدود معرفة راتبك وكيف تنفقه وكم تدخر ليس من شأن أحد، ولا يمكن أن تضعه تحت عنوان المحبة والاهتمام لأن الاهتمام هو أن تعودني وأنا مريض أن تسال عني إن غبت لا أن تتدخل فيما لا يعنيك تحت مسمى الاهتمام.

 

حياتك الخاصة ملك لك ووحدك وهي ليست كتابا مفتوحا لأحد، لست مضطرا للإجابة على أسئلة الآخرين حتى لو كانت بدافع الاهتمام المكذوب
حياتك الخاصة ملك لك ووحدك وهي ليست كتابا مفتوحا لأحد، لست مضطرا للإجابة على أسئلة الآخرين حتى لو كانت بدافع الاهتمام المكذوب
 

الفضول الذي وصل إلى سرائر النفس التي لا يعلمها إلا خالقها، بات سمة سيئة تدعو إلى النفور، حياة الأشخاص بشتى التفاصيل ليس من شأن أحد، لا شيء في هذه الحياة يمنح الحق لأحد مهما وصلت درجة قرابته لأن يدقق في تفاصيل حياته، ما يود أن يطلعك عليه سيطلعك عليه طواعية دون سؤال متى شعر أنه يحتاج لذلك، وما لا يرغب الشخص في اظهاره لك لن يظهره ولو كررت السؤال مائة مرة ولو أعدت صياغته ألف مرة.

  
لقد خلقنا الله لغاية واحدة هي أن نعبده "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" خلقنا الله ليستخلفنا في الأرض لنعمر الكون. وقد عني الإسلام بحفظ خصوصيات المرء وعدم إيذائه فيها، في حديث رسولنا الكريم "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" ويراد بحسن إسلام المرء في الحديث الشريف معنيين الأول صحة الإسلام والثاني كمال الالتزام بالإسلام وبلوغ مرتبة الإحسان، فينبغي أن يكون اشتغال المسلم بشئونه هو وأن ينفق الوقت والجهد فيما يعود عليه بنفع يرتضيه الشرع، فإن بقي لديه وقت فراغ أنفقه فيما يعود على نفسه وعلى المجتمع بالخير وفى العبادة والطاعة وفى توجيه من يملك توجيههم إلى سبل الحق والرشاد والفلاح.

  
والفضول أمر لا يستساغ عند العامة وفي حياتهم العادية البعيدة عن المخاطر، حتى عند المجتمعات التي لا تعاني من ويلات الاحتلال، فكيف بشعب يرزح تحت سيطرة محتل يستخدم شتى الوسائل للوصول إلى أهدافه بقمع المقاومة الفلسطينية، فيضحي الفضول هنا قاتل إذا ما لم يتخذ المقاومين وذويهم الحذر في حياتهم وفي الأسئلة التي توجه لهم بطريقة مقصودة أو غير مقصودة، في وقت جند فيه المحتل أشخاص من ضعاف النفوس والدين والذين يبحثون عن المعلومة حتى تلك البسيطة لتلقطها آذانهم ويتلقفها المحتل ليسجل له أهدافا جديدة في حرب المعلومات الخفية والعقول التي تدار خفية بين الاحتلال الصهيوني والمقاومة الفلسطينية.

  

لا تجعل من حياتك الخاصة مادة خصبة لنشرها عبر مواقع التواصل الاجتماعي فتنتهك خصوصيتك قبل أن يفعلها الآخرون فاختر ما تنشره بعناية
لا تجعل من حياتك الخاصة مادة خصبة لنشرها عبر مواقع التواصل الاجتماعي فتنتهك خصوصيتك قبل أن يفعلها الآخرون فاختر ما تنشره بعناية
 

ونماذج التطفل متنوعة منها "هل يعود ابنك من عمله متسخا ويوجد طينة على ملابسه"، سؤال وجهته أحداهن لجارتها، هو بريء في ظاهره لكنه يحمل في خفاياه ما يجعل من ابنها وبيتها هدفا للمحتل الصهيوني، ولو لم تكن صاحبة البيت فطِنة لجعلت من ابنها صيدا ثمينا للاحتلال الصهيوني، أسئلة كهذه لا تحتاج لأن تُحمَل على حسن النية، فخصوصية فلسطين التي جعلت أبناءها يقاومون المحتل بأسلحتهم التي حوصروا فيها، وحتى بأيديهم الطاهرة التي تعمل ليلا ونهار في باطن الأرض ليدافعوا عن ثرى وطنهم المحتل، ويكسروا شوكة محتل غاصب استباح أرض فلسطين بإرادة لم تعرف المستحيل، ليستردوا حقوهم ويستعيدوا أبناءهم.

  
وأخيرا فإن كلماتي لك هي أن حياتك الخاصة ملك لك ووحدك وهي ليست كتابا مفتوحا لأحد، لست مضطرا للإجابة على أسئلة الآخرين حتى لو كانت بدافع الاهتمام المكذوب، للاهتمام وسائل مختلفة يمكن للشخص أن يعبر عنها بطرق مختلفة. يمكنك استخدام عبارات غير مسيئة تحمل في مضمونها عدم رغبتك بالإجابة سواء تلميحا أو تصريحا إن لزم الأمر بذوق يعكس حسن تربيتك، وكن ذكيا باختيار إجابة عامة تغلق الأسئلة على السائل.

 
ولا تجعل من حياتك الخاصة مادة خصبة لنشرها عبر مواقع التواصل الاجتماعي فتنتهك خصوصيتك قبل أن يفعلها الآخرون اختر ما تنشره بعناية. ولأن أبناء فلسطين اختاروا سبيل المقاومة التي آمنوا بها وأعدوا لها العدة فإن الأسئلة التي لا طائل منها لا ضرورة لطرحها أساسا، والإجابة المقننة والذكية أقل سبيل لحماية أبنائنا من خطر عيون وآذان الاحتلال، والتجاهل هنا لكثير من الأسئلة بحد ذاته فطنة يجب أن تدار بعناية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.