شعار قسم مدونات

أفكار "غير" مسؤولة

blogs رجل يفكر

عندما وضعوا البزابيز في متوضَّأ الجامع بمصر قبل مئتي سنة قال علماء الشافعية: هذه بدعة، وقالت الحنابلة: هذا مكروه، وقالت المالكية: هذا غير مستحب، وقالت الحنفية: لم لا؟ فصار اسم البزبوز.. حنفية. ومن ثقب هذه الحنفية سأحاول استخراج بعض الأفكار السائلة. أولى هذه الأفكار أن المشايخ يبالغون في التدخل في شؤون حياتنا بتقديم الفتاوى حين لا داعي للفتاوى. وسأظل أنادي بعودة المشايخ إلى المسجد، وعودة الدين إلى القلوب. هذه فكرة.

 

سميت أفكاري (سائلة) لأنني أكره تعبير "النقد المسؤول"، وأفضِّل النقد غير المسؤول. ولماذا يريدون لانتقاداتي أن تكون مسؤولة! لماذا يريدونها أن تقع تحت طائلة المسؤولية! أن تتعرض للمساءلة؟ كي يسألها الحاكم، والمجتمع، وكي يسألها القاضي. "النقد المسؤول" عبارة تخفي وراءها تكميماً للأفواه.

 

أعود إلى الحنفية مع فكرة أخرى. كانت حنفية بيتنا القديم من نحاس، تدير فراشتها بعكس عقارب الساعة قليلاً فتعطيك الماء سنسولةً، أي خيطاً رفيعاً من الماء، فترغي الصابونة مع قليل الماء بكفاءة عالية، ثم تدعك كفيك بالرغوة فيفعل هيدروكسيد الصوديوم فعله، ثم تدير فراشة الحنفية أكثر فيتدفق الماء بضع ثوان فتذهب الرغوة. ويكلفك غسل يديك كأس ماء.

 

تقنين الاستهلاك سيجعل البلد بشكل عام يستهلك أقل، وسيقلل الهدر، وسيجعل المستهلك واعياً بما يستهلك
تقنين الاستهلاك سيجعل البلد بشكل عام يستهلك أقل، وسيقلل الهدر، وسيجعل المستهلك واعياً بما يستهلك
 

ثم جاءت الشركة الألمانية. صنع الألمان حنفيات لها مقبض ترفعه قليلاً جداً.. فإذا الماء يتدفق كالشلال. وتحاول خفضه "شوية"، وتتعب وأنت تخفضه، ويظل الماء يتدفق. وتغسل يديك، ويكلفك غسل اليدين دلو ماء. وإذا وقفت تغسل الصحون بأمر من السيدة زوجتك، على الأقل هذا ما يحدث معي، فأنت تتعب نفسياً إذ ترى الماء المهدر.

 

في ألمانيا مطر كثير وأنهار كثيرة، وقد اخترعوا حنفيات تناسبهم، فلماذا استوردناها إلى صحرائنا الجافة؟ لكي نقلدهم. وههنا فكرة سائلة أخرى: كان استيراد الحنفية لتكون بديلاً عن الاغتراف من الحوض عملاً يخدم التوفير والنظافة، وأما استيراد الحنفيات الشلالية فعمل يستنزف المياه الشحيحة. استيراد الأفكار والتقنيات ليس رديئاً، ولكن تطويعها لحياتنا ضروري. (هذه فكرة صغيرة، أليس كذلك؟ المقبلة معقدة).

 

بلغت في هذا المقال حد الـ 300 كلمة.. وقد تعودت في الماضي أن أكتب مقالات بهذا العدد من الكلمات، فعندما قال لي الزملاء في مدونات الجزيرة أطِل قليلاً، غدا واجباً عليَّ أن أجعل الفكرة تلد الفكرة. فإن كنت منشغلاً بشيء فاذهب رعاك الله إلى شيئك. وإن بقيت معي فهيّا إلى الصحراء.

 

في دول الخليج يحلون مياه البحر بكلفة ثلاثة دولارات للكوب واصلاً إلى البيت (كلمة كوب عند المهندسين المدنيين تعني المتر المكعب). ما رأيك في أن نقلل الاستطرادات حتى يسير المقال سيراً حسناً؟  الكلفة عالية وفيها استهلاك للطاقة ولأغشية الترشيح وللمواد الكيميائية. وتدعم الحكومات الغنية سعر الماء المحلى فيدفع المستهلك النصف، وتتحمل الميزانية الحكومية النصف.

 

في بعض البلدان يعفى المواطنون، أي أهل البلد بخلاف المقيمين، من دفع فواتير الماء والكهرباء إعفاء كاملاً. وههنا مشكلة: الاستهلاك الاستهتاري. ليس عند كل الناس، فمعظم الناس لديهم ذلك الحس الطيب، فلا يبددون الماء والكهرباء كثيراً. ولكن الإنسان مطبوع أيضاً على الأنانية، فإذا لم تكن هناك محاسبة فالمرء يميل إلى أن يملأ البانيو لكي يلعبط برجليه قليلاً ثم يفتح المصرف ويذهب الماء هدراً. والمرء يفتح خرطوم الماء نصف ساعة على رأس سيارته كي تستحم جيداً، والمرء يترك منزله طول الليل يستحم في أنوار الكشافات المركبة على جدران الحديقة، (المصيبة أنه يترك الكشافات مضاءة طول النهار أيضاً، ولكن الشمس الساطعة تجعلنا لا نلاحظها). الحل: تسيير دوريات تحذر المواطنين من ترك الكشافات طول الليل والنهار، ومن غسل السيارات بالخراطيم. وهذا الحل، القليل الجدوى أصلاً، يكلف الشرطة عبئاً ثقيلاً.

 

الأجدى أن يعطى كل بيت في كل مخيم قدراً من المال شهرياً مقابل الكهرباء، فمن استهلك أكثر دفع، ومن استهلك أقل كسب. فنكون بذلك قللنا من الهدر وأنعشنا المخيمات الفقيرة

الفكرة المجدية اقتصادياً تصيب عصفورين بحجر: تجعل المواطن يدفع، وتجعله أيضاً يكسب بعض المال. لنفترض أنه جرى تقدير الاستهلاك المائي والكهربائي لكل بيت – بحسب عدد الساكنين في البيت ومساحته، إلخ-  ثم أعطي المواطن المعفى من كلفة الماء والكهرباء مبلغاً من المال كل شهر.. فرضاً مئة دينار لمواطن لديه ولدان وزوجة. وقيل له: الآن ستدفع الفواتير. فماذا سيحدث؟ سيوفر المواطن في مائه وفي كهربائه، وسيفرك كفيه بفرح عندما تأتي الفواتير بمبلغ 80 ديناراً. فها قد ربح عشرين ديناراً.. ليس من أموال الحكومة، بل من توفيره. وسيكون هناك مواطن مستهتر.. وستأتيه الفاتورة بمئة وعشرين ديناراً، فهذا سيخسر عشرين.. ليس بسبب الحكومة بل بسبب تبذيره. تقنين الاستهلاك سيجعل البلد بشكل عام يستهلك أقل، وسيقلل الهدر، وسيجعل المستهلك واعياً بما يستهلك.

 

مثال آخر: أعفى الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات المخيمات من فواتير الكهرباء. وقال فليتحمل الآخرون التكلفة. هذا شيء نصف بريء، ونصف جميل. أما أنه نصف بريء فلأن الهدف كان سياسياً: ضمان تأييد المخيمات للسلطة. وأما أنه نصف جميل فلأن الإعفاء كان غير مقنن. والنتيجة: أصبح هناك هدر كثير، كانت المدافئ الكهربائية تظل شغالة طول الوقت، وكانت المصابيح تظل مضاءة ليل نهار، وكان كل شيء في البيت يعمل بالكهرباء.

 

الأجدى أن يعطى كل بيت في كل مخيم قدراً من المال شهرياً مقابل الكهرباء، فمن استهلك أكثر دفع، ومن استهلك أقل كسب. فنكون بذلك قللنا من الهدر وأنعشنا المخيمات الفقيرة. أنا كإنسان أريد أن أتحكم بميزانيتي، ولا أريد صدقة تعقبها مساءلة.. فاشلة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.