شعار قسم مدونات

أسمعت بوطن يُحتضر فيه الحلم؟

blogs - حزن وحدة
هل سمعت يوما بوطن يجرم الحلم، يحرمه، وطن غرق في اليأس حتى صار الحلم جنونا، مجونا وحتى كفرا؟ أسمعت بوطن اضمحلت آماله، ودنا سقف طموحاته، وطن مات فيه الأمل والرغبة في الأشياء العظيمة؟ أتصدق أن أمة أنتجت من العلوم والمعرفة ما غيّر قدر البشرية، تقف اليوم عاجزة، تراقب ركب التقدم، دون أن تستطيع اللحاق به؟ أتدري أن أحفاد ابن رشد والخوارزمي اتخذوا أبطالا من ورق قداوتهم فصار الطموح غناء وتمثيلا بعد أن كان طبا وجبرا وفلسفة؟
نعم في وطني يلفظ الحلم أنفاسه الأخيرة على إيقاع الفقر والتهميش والفساد وغياب العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص ليأخذ اليأس مكانه. وحده اللاحلم يفرض وجوده يوما بعد يوم. اللاحلم يملأ المكان، يشل الفرد والجماعة، يجثم على الحاضر والمستقبل، يشي بالانهيار، بالانهزام، بالخيبة.

يكفي أن نسأل أنفسنا أين نحن من كل تلك الأشياء العظيمة التي جاد بها الفكر والعقل الإنساني في العقود الأخيرة؟ أين نحن من العلم والأدب؟ والحال أن الإنجازات العظيمة تبدأ بأحلام عظيمة، فكيف إذن لمن لا يرى أبعد مما يحيط به، أن يحلق، أن يغير واقعه؟

وبينما يحتضر الحلم حولنا، يبدو من المشروع أن نتساءل: هل اللاحلم ذنب فردي أم لعنة جماعية؟ هل هو علامة فشل أشخاص أم فشل منظومة؟ أمسؤولون نحن عن يأسنا، أم أننا ضحيته؟
 
إذا ما استحضرنا شريط الأحداث التي عشناها في العقود الأخيرة، بدا اللاحلم مفهوما بل ومشروعا. فما بين نكسة، وأزمة وحروب مدمرة وثورات فاشلة، ماتت أشياء كثيرة فينا. فليس أقسى من الخيبة على الإنسان. يقول درويش: ولنا أحلامنا الصغرى، كأن نصحو من النوم معافين من الخيبة. اعتزلنا إذن على مضض، الرغبة في الأشياء لأن فقدانها موجع وانشغلنا بأشياء أخرى ظنناها تشكل حياة أو بالأحرى حاولنا أن نصنع منها حياة.

ثم تأتي السياسات المتبعة من طرف مسؤولينا لتكمل مسلسل الإحباط: منظومة تعليمية فاشلة، اقتصاد متدهور، فساد ومحسوبية، عدم تكافؤ الفرص وغياب لأي سياسة لدعم الشباب. وكنتيجة، يقضي أغلبنا حياته بحثا عن القوت، عن الاستقرار المادي. لا وقت لدينا إذن لنحلم. أخذوا منا أحلامنا، الواحد تلو الآخر وها هم يجهزون الآن على الحلم كطريقة حياة. ها هم يجعلون أقصى طموحنا دخلا قارا ومنزلا وسيارة. ها هم يحولوننا إلى كائنات هدفها الأسمى الاستهلاك.

ينقصنا أن نحب الحياة بكل كياننا، أن نكون شغوفين بها. أن نرى في كل يوم معجزة وفرصة لتحقيق حلم. علينا أن نعي أن الطموح لا يتنافى مع القناعة، أن حب الحياة والإيمان ليسا نقيضين
ينقصنا أن نحب الحياة بكل كياننا، أن نكون شغوفين بها. أن نرى في كل يوم معجزة وفرصة لتحقيق حلم. علينا أن نعي أن الطموح لا يتنافى مع القناعة، أن حب الحياة والإيمان ليسا نقيضين
 

خطير ما آلت إليه أحوالنا، خطير أن نسير في هذه الحياة دون هدف كبير يحركنا، أن نعيش عمرا دون أن تنقطع أنفاسنا لأحاسيس عظيمة وإنجازات عظيمة. موجع أن ننسى طعم النصر ونعتاد الهزيمة والفشل، أن نرضخ لواقع لا يليق بنا، أن نذعن له كمن لا حول له ولا قوة، أن نتحمل وجودا هو، كما قال أدونيس، أكثر من موت وأقل من حياة. ولكن الأخطر أن نجد في يأسنا فلسفة حياة. أن نجد للاحلم مشروعية تحت ذريعة الواقعية والبراغماتية. أن يجعل الوطن من الممتلكات المادية معيارا للنجاح ومن عبدة المال قداوته.

ينقصنا إذن، أن نتحرر من القيود النفسية والاجتماعية التي حولت حياتنا إلى وجود عبثي، تلك التي تجعلنا غير قادرين على مغادرة القالب الذي وضعوه لنا. علينا أن ندرك أن الحياة أكبر من ماديات، أكبر مما يصورونه لنا على أنه سعادة ونجاح. فلن تكون لنا الشجاعة لاختيار طريق مغاير حتى ولو بدا غريبا ومجنونا حسب معاييرهم. ليكن نجاحنا بنمط مغاير، بطعم الابتكارات والاختراعات، بطعم لوحة فنية، قصيدة، نص أدبي، نظرية فلسفية، فليكن نصرنا أن نغازل العقول ونوقعها في حب فكرنا.

ينقصنا أيضا أن نحب الحياة بكل كياننا، أن نكون شغوفين بها. أن نرى في كل يوم معجزة وفرصة لتحقيق حلم. علينا أن نعي أن الطموح لا يتنافى مع القناعة، أن حب الحياة والإيمان ليسا نقيضين. فليكن زهدنا في المال، لا في التفوق العلمي والأدبي والفني. علينا أن نبحث عن الله وعظمته فينا، فيما وهبه لنا من عقل وفكر، وميزنا به عن سائر المخلوقات. فلتكن إنجازاتنا تحقيقا لمعجزة الله فينا. فلندرك أن التكليف ليس فقط عبادة وفرائض، إنما إعمال ملكة العقل في البحث والابتكار لأن لنا واجبا تجاه أوطاننا والبشرية كافة.

لنتذكر أن العظماء بدأوا نضالهم من أجل البشرية بحلم. فلتكن إذا رغبتنا بالحلم أقوى من الوجود الفارغ من المعنى الذي يريدوننا أن نعيشه. فلنمارس الحلم رغما عنهم ولنتستمت في الدفاع عنه. لنكن على مذهب درويش، في كل حلم، يرمم حلما، ويحلم..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.