شعار قسم مدونات

التطرف الإسلامي.. دوافعه ومآلاته وعلاجه

Blogs- islamic state

كان بالأمس شاباً عادياً كبقية الشباب، يقضي أغلب وقته على المقاهي، ممسكاً بعصا الأرجيلة وواضعاً قدمه على الأخرى، وبينما يخرج الدخان الكثيف من جوفه ملوثاً البيئة حوله، إذ به يلوثها أيضاً بكلام عن هذا وذاك من الناس، يحكم عليهم ويقضي فيهم برأيه، رجع إلى بيته فاستمع لحلقة دينية عن الدار الآخرة، أو مر بمسجد وحدثته نفسه أن يصلي فيه ثم أعقب الإمام صلاته بكلمات وجدت طريقها إلى قلبه، فتأثر بها وبكت عيناه، وندم على حياة قضى أغلبها بلا قيمة وبلا هدف.

  

عزم أن يفعل شيئاً لكنه لا يدري ما يمكنه أن يفعل، فحرَّكته عزيمة التائب الصادق في توبته، لكنه لم يتمهل ليدرك كيف يستطيع أن يخدم أمته أو يخدم دينه، عَلِمَ أن ذروة سنام الإسلام هي الجهاد في سبيل الله، فهرع إلى أول منادي ينادي بالجهاد، فألقى بنفسه بين يديه، لم يفكر هل هذا القتال جهاداً! وهل هو في سبيل الله! فضلّ سعيه في الحياة الدنيا وهو يحسب أنه يحسن صُنعا، ثم لم يكتفي بذلك، بل بدأ بدعوة غيره ليسلك نفس مساره، لا يدري على وجه التحديد لماذا يفعل ذلك، هل لأنه قد علم حقاً ويقيناً سلامة الطريق الذي سلكه؟ أم لأنه يريد أن يشعر أنه لم يُخطئ القرار ولم يتسرع!

   

وجود الناس حوله يخفف وطأة محاسبته لنفسه، وقدومهم إليه بدعوته لهم يُشعره أنه المقدم فيهم، فهو الذي سبقهم إلى الخير وكان سبباً في "هدايتهم"، فيزيد حظ نفسه من الدنيا أكثر وأكثر، ثم بدأ يهاجم هؤلاء الذين تخلفوا عن دعوته، وعن اختيار الدرب الذي اختاره لنفسه، ويتهمهم بالقعود مع الخالفين، ويُغلظ إليهم القول، بدلاً من أن يدعو إلى ما يظنه "طريق ربه" بالحكمة والموعظة الحسنة، فتزداد تصرفاته قُبحاً ينفر منه أقل الناس إيماناً قبل أعلاهم، بل يجعل بعضهم يبدأ الشك في دينه، هل هذا ديننا حقاً؟ هل هذا ما يأمرنا به الإسلام؟ فيكون هذا الشاب التائب حديثاً بالأمس فتنة اليوم والغد، لا ندرك كيف تنتهي وعلى أي حال تنقضي!

    

إن إصلاح الفرد هو نواة إصلاح المجتمع الذي به تقوم الدولة وتنهض، أما إذا تُرك أفرادها ولم يُأبه لهم، وتم التعامل معهم كأنهم بلا قيمة تدمر المجتمع

إن المشترك في هذه القصة بين الداعي والمُجيب والمرتبك الذي بدأ الشك يطرق أبواب قلبه، هو الجهل. وأعراض الجهل كثيرة، أهمها سوء الفهم، والتعصب للرأي، وعدم الاعتراف بالرأي الآخر، بل وتحقير صاحبه واتهامه، والعنف في التعامل، والتسرع في القرارات وردود الأفعال، والحكم بالعاطفة لا بالعقل، والتصرف بالهوى وعدم كظم الغيظ، والإسراف في اتهام الناس والحكم على الغير وتنزيه النفس. فالجهل هو أول أسباب صناعة التطرف. وحينما أُريدَ لأمتنا أن يغزوها الجهل بعد أن كان المسلمون سادة الدنيا في العلوم والحضارة، بدأ يتسلط عليها رؤوساً جُهّالاً، يحكمون الناس بالعصا، يمسكون عن بذل أموال الدولة في التعليم وصناعة العقول، ثم يبذلونها فيما يُطلقون عليه "الأمن" وصناعة العسكر.. لا أدري الأمن مِمّن؟

   

أَمِنَ الصهيوني المحتل عدو الأمس والصديق الصدوق اليوم؟ أم من الشعب نفسه؟ فأصبحت الجيوش تُبنى وتُصنع لحفظ أصحاب العروش من الشعوب، فالشعب هو الخطر، ليس على الأمة، بل على من سرق الأمة وحاد بها عن مسارها. إذن فالاستبداد هو أحد أسباب الجهل وثاني أسباب صناعة التطرف. والاستبداد والجهل متلازمان، إذا انفرط عقد أحدهما انفرط عقد الآخر، فإن الجهل هو حامي الاستبداد، فإن علم الناس دينهم وفهموا دنياهم وواقعهم، لم يرتضوا لأحد أن يستبد بهم، ولذلك كان الطواغيت أول ما يقومون به هو القبض على العلماء والزج بهم في السجون وتشويه صورتهم وتهديد أتباعهم بمصيرهم. وكذلك إذا كُسر الاستبداد، تواجد الرأي والرأي الآخر، فعمد الناس إلى الحوار بدلاً من القتال، ووجد علماء الدين مناخاً يجعلهم قادرين على أن يقوموا بمهمتهم في توعية الناس وإرشادهم.
  
أما السبب الثالث بل والأهم، هو خُبث الأنفس، إن خالق هذا الجسد وضع داخله نفساً وصفها سبحانه وتعالى بالأمارة بالسوء، ثم قال وهو أحكم القائلين: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا. فجعل الميزان هنا هو تزكيتها ومجاهدتها. لقد فهم علماء أمتنا هذا، وعلموا أن جهاد النفس هو الجهاد الأكبر وليس قتالُ العدو، فالله سبحانه يقول "كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ"، فالنفس لا تقدر على القيام بما تكره إلا إذا جوهدت عليه، وجهاد العدو لا يصلح ولا يثمر إذا غاب عن صاحبه جهاد النفس، فإذا ذهب إليه من يجد فيه متعته وغايته ففي نفسه سقم، وإن أعظم الابتلاءات أن تغيب النفوس المطمئنة والصادقة عن الساحة، فتجد أصحاب النفوس المظلمة والأمارة على رؤوس البلاد والعباد، وترى الوعّاظ والدعاة والعلماء يتقنون بلاغة القول وفنون العلوم لكن مازالت بداخلهم نفوساً مريضة، تعرفهم في لحن القول وعند الابتلاء والتمحيص، فإذا سار الحال هكذا فاسألوا الله السلامة.

          

إن هذا الشاب صاحب الأرجيلة قد تغير قلبه، لكن لم تتغير نفسه، والقلب كثير التقلب، أما النفس فثابتة مستقرة، تغييرها يحتاج مجاهدةً وعناء. و قد ذكرَ علماء التزكية أن الطريق إلى الله يحتاج إلى تخلية النفس من أمراضها وشوائبها قبل تحليتها بالذكر وبالتقرب إلى الله تعالى بالأعمال الصالحة، فإن لم يَتبَع التوبة النصوحة تزكية للنفس قبل أن يصير صاحبها ناشطاً أو داعياً، ضلّ صاحبها وأضلّ معه الكثيرين، فأصبحوا جنداً للشيطان بدلاً من أن يكونوا عباداً للرحمن.  

      

مآلات التطرف تشرذم المجتمعات وتشتتها، وتردي الأوضاع الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، وما يعقب ذلك من سهولة السيطرة على هذه المجتمعات المفككة
مآلات التطرف تشرذم المجتمعات وتشتتها، وتردي الأوضاع الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، وما يعقب ذلك من سهولة السيطرة على هذه المجتمعات المفككة
 

الشعور بالظلم الشديد، بالتحديد مع النفس الأمارة بالسوء، وكذلك مع الجهل والاستبداد، يُعدّ أيضاً من أهم أسباب التطرف، فإذا أُخذ الإنسان بالظلم، فضُرب وأُهين، واعتُدِيَ على بيته وأهله، وحُبس في السجون، فسُبّ دينه وربه أمامه، وقد عَلِمَ أنه لا يفعل ذلك إلا كافراً بالله تعالى، فوجد زملاء هذا الذي يفعل ذلك يحترمونه ويبجّلونه، فاتهمهم بما اتهمه به، ثم بعد أن خرج من سجنه الذي لبث فيه أعواماً ظلماً وزورا، وجد عوام الناس من الشعب يمدحون هؤلاء الذين يعتدون على الناس بغير وجه حق ويسبون الذات الإلهية بِحُريّة ولا يسمحون بسب الذات الملكية أو الحاكمية، ويقولون على قتلاهم شهداء، وعلى أحيائهم مخلصون أوفياء، فلم يتورع عن اتهام عوام الناس بالكفر، بل المجتمع بأكمله بالمجتمع الكافر، بل ودعا الناس إلى الهجرة منه، أو استباحة قتل أفراده. 

   
أما عن مآلات التطرف فهي أخطر ما فيه، تشرذم المجتمعات وتشتتها، وتردي الأوضاع الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، وما يعقب ذلك من سهولة السيطرة على هذه المجتمعات المفككة، إما مباشرة باحتلالها، أو بشكل غير مباشر من خلال دفع المعونات المشروطة لها والتحكم في مواردها والتدخل السافر في شئونها. إن إصلاح الفرد هو نواة إصلاح المجتمع الذي به تقوم الدولة وتنهض، أما إذا تُرك أفرادها ولم يُأبه لهم، وتم التعامل معهم كأنهم بلا قيمة، وصار علاج متطرفهم هو القضاء عليه أو التخلص منه، فلا هناك دولة تبنى ولا حكومة تنهض.
  
وعلاج التطرف الفكري قد يطول أمده، فالعلم وتزكية النفس وكسر الاستبداد والصبر واحتساب الابتلاء أمور ليست بالهينة، قد تأخذ شهوراً أو سنوات أو عقود، يعتمد ذلك على قدرة الدعاة القائمين بهذا العلاج، وعلى همتهم وبراعتهم، فقد استطاع عبد الله بن العباس في مناظرة سريعة مع الخوارج الحروريّة أن يعود بثلث جيشهم (ألفين مقاتل)، كما يعتمد على استعداد الناس للحوار والبحث عن الحقيقة، وكما يعتمد أيضاً على وجود المناخ المطلوب لذلك، والذي يكاد أن يكون منعدماً في بلاد انتشر فيها الفساد والاستبداد. وإن أسوأ ما يمكن حدوثه، هو التعامل مع التطرف بالغلظة، فالاعتقال والقتل والتشريد والسباب والهجوم بأشنع الألفاظ والأوصاف هم بمثابة الحطب الذي يُلقمه أحدكم للنار بينما يحاول أن يطفأها ويخمد جذوتها! وإن علاج التطرف والأمراض الفكرية يحتاج إلى حكمة عقل وليس إلى قوة سلاح.

    

إن علاج التطرف يشبه علاج الجسد المصاب بالسرطان، يحتاج الطبيب الحكيم أولاً إلى فهم وضعه وحالته واتساع رقعته، ثم يبدأ بمحاصرته ببطء، بالعلاجين الكيماوي أو الإشعاعي، ثم يعمد إلى استئصاله، وكذلك فالحكيم الذي يتعامل مع المتطرف يحاول أن يحاصر الشر فيه ويخمد ناره، ثم يقوم باستئصال هذا الورم الفكري من عقله، وليس استئصال الشخص نفسه كما يعتقد المستبدون، ثم يعمد إلى الخير بداخله فيزيده ليغلب على شره، فتتحول الهمة والعزيمة التي كانت بداخل ذلك الشخص والتي أساء استخدمها إلى باعث خير يسعى به صاحبه بين الناس، ثم يُتبع الحكيم ذلك بإعطاء قيمة للحياة لمريضه، يوضح له الهدف منها والغاية فيها، فتحلو المجاهدة لتحقيق الهدف والوصول إلى الغاية بفكر سليم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.